من كان يعيش في القدس وكان يتجول في أسواقها ويحفظ تراثها ويتذكر حرفها وميزاتها التي سادت قبل خمسين عاما، قد لا يعجبه ما طرأت عليها اليوم من تغيرات وحداثة، وقد لا يعجبه اختفاء حِرَفٍ كانت تعطي للقدس القديمة صبغتها التاريخية، أو غياب أشخاص عن ساحتها ممن كانوا أحد أركان مشهدها.

وفي البلدة القديمة من القدس..أزقة مُتعددة..قناطر كثيرة..قدمها يوحي بخلودها وعظمتها ورسوخها عبر السنين..شوارع تنفصل تارة لتتصل مرة ثانية كأنها لا تطيق الانفصال بل تعشق الاتصال والوحدة... باعة السوس الخروب والهريسة والفول السوداني والتمرية..أسواق تفوح بالطيبة..من قبل المارة والباعة فالابتسامات وعبارات الترحيب تعلو الوجوه القناعة والرضا ميزة اهلها وزائريها.

تباين واضح وفرق كبير بين شوارع وأزقة القدس اليوم عن ما كانت عليه المدينة قبل الاحتلال، حتى طباع الناس من سكان الى زائرين تبدلت ومعاملاتهم تغيرت.

أسواق البلدة القديمة تبدأ من باب العمود..

يصف الكاتب الحاج محمود سعيد أبو غزالة أسواق مدينة القدس قديماً، ينظر أمامه ويشير بيديه وكأنه يشاهد فيلماً وثائقياً عايشه ولا يريد أن تمحى ذكرياته من عقله، تحدث عن الحِرَف القديمة، وعن بساطة العيش، وعن أصالة بضائعها..حيث قال :"مدخل باب العمود..المدخل الرئيسي لمدينة السلام، باعة متجولون محال الصرافة...قرويات... يبعن ما جادت به الطبيعة في أراضيهم من محاصيل حبوب وبقول وخضار، الخيار البلدي والباذنجان البيتري، فاصولياء ارطاس، عنب الخضر والخليل..الزعتر الأخضر والميرمية الجبلية..مقهى صيام ثم مقهى زعترة، رجال كبار يستريحون من وعثاء السفر منهم من يحتسي القهوة والشاي، ومنهم من يدخن الأرجيلة، وآخرون يلعبون النرد أو الورق..كما كانت هذه المقاهي ملتقى الندوات والمحاضرات أبان الانتخابات البلدية في عهد الأردن في الخمسينات من القرن الماضي، السهرات الرمضانية، الحكواتي أبو صالح وصندوق العجائب للأطفال... اما اليوم فانها محال لبيع الألبسة والأحذية".

سوق خان الزيت..

ويضيف الكاتب أبو غزالة :"سوق خان الزيت يعتبر من أطول أسواق البلدة القديمة، وأكثرها اكتظاظا وشعبية، كان يحوي محال لبيع الحبوب والبقول والخضار والأجبان والزيتون والصابون النابلسي والدخان البلدي ومطاعم شعبية ومحال الحلويات الشرقية والكنافة النابلسية في حلويات جعفر ومكسرات القضماني ومطبق زلاطيمو، كما ان بعض الحرف والصناعات اليدوية التي كانت تلفت النظر سابقا لم يعد لها وجود هذه الأيام".

أما عن تلك الحرف فيقول:"لم تعد تجد معمر بوابير الكاز (البوابرجي) ولحام الصفائح التنكية (التنكجي) –من عائلة الفحام- وعويضة ومصنع الكراسي الخشبية والقباقيب ومحال بيع القطع الأثرية والزخارف الشعبية ودلاء الكاوتشوك لسحب المياه من الآبار، حيث ان تلك البضائع اختفت وتلاشت الحرف وأكثر ما تشاهده اليوم محلات بيع الملابس الجاهزة، والأحذية وبعض المحال التي احتفظت بوجودها كالمكتبات (الأندلس والحلبي والشناوي)".

سوق الدباغة وحارة النصارى..

ويتابع أبو غزالة :"من باب خان الزيت نصل الى سوق الدباغة القريب من كنيسة القيامة الذي كان يعج بالسياح من مختلف الجنسيات والديانات ونوافير المياه المنبعثة من البركة التي كانت تتوسط ساحة السوق وحولها الأفغان بلباسهم التقليدي يعملون على شحذ السكاكين للقصابين وأمواس الحلاقة للحلاقين، وكلما زادت سرعة الدولاب تطاير شرر السكين على الحجر الناري والابتسامة تعلو شفاههم عندما ينتهون من عملهم".

وأضاف :"أما حارة النصارى الواقعة غرب سوق الدباغة فيمتاز هذا السوق ببيع التحف الشرقية وأنواع الخزف والشمع والأواني وخشب الزيتون ورسومات تجسد حياة المسيح عليه السلام، اضافة الى صناعة الطرابيش التي كان وجهاء المدينة يلبسونها".

سوق العطارين..

وعن سوق العطارين حيث سمي بذلك لأنه كان يمتاز بمحال بيع البهارات قال أبو غزالة :"الى سوق العطارين حيث محلات بيع البهارات والاحذية والنثريات واشتهر هذا السوق بالعطارين لأنه كان مخصصاً لبيع البهارات والتوابل والأعشاب الطبيعية والعسل، وكان الباعة آنذاك نصف أطباء يصفون العلاج للسعال والقرحة والانتفاخ وفتح الشهية ووجع الاسنان والمفاصل والحصبة، أما اليوم فتحولت معظم المحلات فيه الى محلات بيع الملابس وبيع الذهب".

سوق اللحامين..


وبموازاة سوق العطارين تنبعث رائحة اللحوم والسقط (أحشاء الماشية) من سوق اللحامين حيث قال أبو غزالة عنه :"نعبر اليه من ممر صغير وفيه يكثر القصابون ومن بيع لحوم الخراف والماعز والبقر الى كافة أنواع السقط والكرشات والأرجل والرؤوس، أما أجمل تلك الايام قديماً هي ايام عيد الاضحى وأواخر شهر رمضان، فمن الافطار الجماعي في ممرات السوق الى ذبح الاضاحي والتكبيرات والدماء، فكانت الحياة جداً بسيطة ورائعة".

أسواق النحاسين والخواجات والصاغة والباشورة..

وفي نهاية ووسط سوق العطارين هناك سوق النحاسين والخواجات القريبان أيضاً من سوق اللحامين، حيث يقول أبو غزالة :"في سوق النحاسين وهو في حوش السلطان كان يقوم النحاسون بتبيض وتلميع الأواني النحاسية، فكان النّحاس يهز وسطه من حركة رجيله، وهو يفرك الأطباق بقدميه النحاسية وسرعان ما تبرق وتلمع من جديد، اما سوق الخواجات فكان لندف الصوف والقطن، حيث يعود الصوف منفوشا وتصبح الفرش أكثر ليونة ومرونة وأكثر الصناع شهرة الجيطان وسلهب.

أما سوق الصاغة الذي كان يشتهر ببيع الذهب فمحاله التجارية اليوم تقتصر على الاقمشة كما أوضح أحد أصحاب المحلات هناك «وحيد الإمام» الذي قال أن مهنة بيع القماش التي تشتهر بها القدس في طريقها إلى الانقراض، فلم يعد المواطن يلجأ إلى التفصيل والخياطة".

والى الأمام من سوق العطّارين يقع سوق الباشورة والذي اشتهر بعد نكبة عام 1948 ببيع الملابس المستعملة وتبديل وشراء الملابس القديمة والتي يطلق عليها "البالات"، حيث اشتهرت عائلتي الكركي والدميري في البيع، لكن حاليا فأغلب محلاته تحولت الى بيع الخزف ومواد السياحة.

أسواق قرب المسجد الأقصى..

وأضاف أبو غزالة :"اما سوق السلسلة المؤدي الى الحرم الشريف فكانت تكثر فيه المحال التجارية من باعة البقول والافران والمخابز الى تصليح الكهرباء والسعاتية (مصلحو الساعات) والحلاقين، وكان الحلاق زمان "نصف طبيب" يخلع الاضراس والاسنان ويعمل الحجامة والتطبيب بالكي وكاسات الهواء ودودة العلق وعلاج الثعلبة، وكان المارة في شوارع القدس وأسواقها يكادون يختنقون من الاكتظاظ لاسيما في الأعياد، فالمسلمون الأتراك والإفغان والباكستانيين والأندونيسيين والعراقيين والسوريين كانوا يقدسون حجتهم بزيارة الأقصى ثالث المساجد التي تشد اليها الرحال".

موسم النبي موسى..

ومن الذكريات الخالدة التي كانت تشهدها مدينة القدس هي "زفة علم النبي موسى" حيث قال أبو غزالة :"هذه الفكرة التي ولدت للقائد صلاح الدين الايوبي ولاحياء الشعائر الدينية والتأكيد على الوحدة الايمانية التي تجمع فئات الشعب الفلسطيني..وتوارثتها الاجيال حتى أيام الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الاسلامي الاعلى، حيث كانت الزفة تبدأ بعد صلاة عصر يوم الجمعة من المسجد الاقصى وتنطلق من باب المجلس الاسلامي مرورا بالواد الى طريق الالام ثم الى باب الاسباط حتى راس العمود..وكانت عائلات قليبو والحسيني والقطب مسؤولة عن علم النبي موسى ذي اللون الأخضر، وكان يعرف بالبيرق ويحفظ عند الانتهاء من الموسم في بيت جميل الحسيني المعروف (البيرق دار) في عقبة المفتي".

مضيفاً :"في اليوم التالي كان يأتي المحتلفون من منطقة نابلس وهم يرددون الاغاني والاهازيج، ويوم الاحد كانت تأتي فرق المحتفلين من الخليل، وكان يشرف آل الحسيني على اطعام الجموع الغفيرة المناسف من الأرز واللبن واللحوم دون مقابل، اما الحلاقون فكانوا يحلقون للأولاد الصغار".

الأعياد المسيحية..

وأشار أبو غزالة أن الطوائف المسيحية على اختلافها كانت تحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح، كل يؤدي طقوسه الدينية بحرية ولا احقاد ولا ضغائن، اضافة الى عيد الفصح المجيد الذي كان يكتظ بالحجاج من مختلف بلدان العالم، ومن مختلف مدن وقرى فلسطين، حيث كانوا يمرون بكافة مراحل حياة السيد المسيح داخل البلدة القديمة حتى يصلوا الى كنيسة القيامة.

وفي ختام الجولة في أسواق وأزقة القدس القديمة وهي أزقة لم تُمحى تفاصيلها وبلاطاتها من ذاكرة الكاتب أبو غزالة ..سكت وهو يرغب بأن تبقى تلك الذكريات الجميلة حاضرة في مكان العالم المُتغير الذي تحولت فيه أسواق البلدة القديمة الى ماهي عليه اليوم.. وبحديثه عن تلك الأيام تمنى أن تعود القدس الى بساطتها وأصالتها وأن تنفض عنها أثار سنوات الاحتلال....

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]