عندما تلتقيها للمرّة الأولى، لا خيار أمامك سوى أن تضمها بين ذراعيك لبرائتها وخفّة ظلها ونضجها المبكر، ودون أن تدري ستقر بعشقك لطفولتها فور جلوسك معها وملاطفتها بحديث ستكون هي الأبرع فيه مهما حاولت ..

هذه هي نجمة اغبارية، من مدينة ام الفحم، الطفلة التي مزجت نضج البالغين ببراءة الأطفال دون أن يتخطى عمرها عتبة السنوات التسع، فهذه النجمة ذاقت معاناة مرض السرطان وحاربته بألعاب طفولتها، لتتركك أمام قصة ستنحني أمامها إعجابًا بقوة طفلة نجحت أن تسطع بسلاح البراءة والضحكة النابعة من القلب..

مراسلنا زار "نجمة" في قسم الأطفال المصابين بالسرطان في مستشفى "هعيمك" في العفوله، والتقى هناك الطفلة نجمة ووالدتها حاورهما، وعاد لنا بالآتي :

كنا ننتظر استيقاظها لنخبرها أن الانتفاخ قد زال فأخبرناها أنها مصابة بالسرطان..

استهلت أم نجمة الحديث مسترجعة 365 يومًا إلى الوراء، تحديدًا في الأيام الأولى من رمضان 2011 ، لحظة معرفتها أن آخر عنقودها ودلوعة البيت "نجمة" مصابة بالسرطان في البطن، وقالت بعد هنيهة صمت: "كانت نجمتي تعاني من انتفاخ في بطنها وبعد أخذها لعيادة طبيب العائلة عدنا مطمئنين، فقد أخبرنا أن هذا الانتفاخ موجود بفعل غازات طبيعية في بطنها وسيزول خلال أيام، لكننا فوجئنا بأن الانتفاخ في بطن طفلتنا يزداد عندها قررنا أخذها إلى المستشفى وهناك أكدوا لنا كلام طبيب العائلة بأن انتفاخ بطنها يحدث بفعل الغازات، لا أكثر ، لكنهم اقترحوا علينا أن يتم إجراء عملية جراحية لها لإزالة هذا الانتفاخ بشكل نهائي، وقد كان، وبالفعل تمت العملية بنجاح وخرجت نجمة من غرفة العمليات بشكلها السابق بدون أي انتفاخ في بطنها، لكن الطبيب الذي أشرف على عمليتها أعلمنا بوجود كتلة في بطنها وقد رجح ان تكون هذه الكتلة "دهنيّات متراكمة" وعلينا إزالتها دون قلق أو خوف، فارتاح بالنا وجلسنا ننتظر استيقاظ طفلتنا بعد زوال أثر المخدر لنخبرها أن انتفاخ بطنها قد زال وبأنها جميلة كما السابق، لكنا فوجئنا بالطبيب نفسه يدخل غرفتها بعد ساعة من انتهاء حديثنا الأول معه ، لينقل لنا خبرًا عشنا بعده كابوسًا طويلاً، عندما قال :"إن نجمة مصابة بالسرطان"..!

تحاشينا ان نخبرها أنها من الممكن أن تموت لتظل تبتسمْ..

تابعت أم نجمة حديثها قائلة: "لم نعي، أنا ووالد نجمة، كيف صمدنا أمام مثل هذه الفاجعة ، لقد كنا أقوياء بشكل مفاجئ ، وقررنا على الفور أن تباشر نجمتنا بالعلاج الكيميائي، كما أن نجمة فاجأتنا هي الأخرى، فقد تقبلت خبر مرضها بشكل جيّد، ربما لأنها لم تكن تعي مخاطر هذا المرض والتحديات التي تنتظرها في الشهور المقبلة، إضافة إلى ذلك فإننا تحاشينا أن نذكر أمامها فكرة الموت، لم نشأ إخبارها بأنها من الممكن أن تموت، لكي نستمد قوتنا من ابتسامتها الملائكيّة، وبالفعل بدأنا رحلة العلاج معًا ، كنّا معًا عائلة واحدة ، فقد استقر والدها برفقتها في غرفة المستشفى بينما كنت أمر عليهما برفقة شقيقها وشقيقتها في كل يوم على موعد أذان المغرب ، أحمل معي طعام الإفطار وكنا نجلس سويًا حول مائدة صغيرة موجودة في الغرفة نتناول افطارنا معًا ونسهر سويًا لنتابع المسلسل السوري "باب الحارة" كما تفعل معظم العائلات ومن ثم أغادر برفقة إخوتها لتنام بهدوء قرب والدها .."

أسهبت :"كان علينا العمل كفريق وكعائلة محبّة لنتخطى محنتنا"..

 "وحياتـَك خليني أحكي قبل ما ترجع الفطريّات.."


هنا، توجهنا إلى نجمة بالحديث، وسألناها عن أبرز ما تذكره من رمضان العام الماضي فقالت ببراءة شديدة والابتسامة مزروعة على محيّاها :"أكثر إشي بتذكره إني مكنتش أسلّم على حدا إلاّ ما يغسل إيديه قدّامي.."

عندها ضحكت أم نجمة مؤكدة على كلام طفلتها وقالت: "بالفعل كانت نجمة ترفض أن تصافح أحدًا إلاّ إن كان يقوم بغسل يديه وتعقيمها أمامها، بالإضافة إلى ذلك فقد كانت تحافظ على مواعيد الدواء كل حسب وصف الطبيب لطريقة ووقت تناوله، لكن أصعب الفترات التي عشناها كانت عند ظهور "الفطريات" في فم نجمة، فهذه الفطريات التي تظهر نتيجة العلاج الكيماوي كانت تمنعها عن تناول الطعام أو الحديث ، حيث كانت تظل صامتة وتعيش بفضل "المضادات الحيويّة" وأكياس "الفيتامينات" التي تدخل جسدها عبر الوريد، ولا أزال أذكر تلك المرة التي رافقتها الفطريات خلالها مدة زادت عن الأسبوعين مما أدى إلى عدم سماعنا لصوتها طوال هذه المدة وبعد زوالها ، بحمد الله ، بدأت نجمة تتحدث دون توقف، وعندما طلب منها شقيقها أن تهدأ قليلاً ليتمكن من أداء فروضه المدرسية بتركيز عالٍ، قالت له نجمة :"وحياتك خليني أحكي قبل ما ترجع الفطريّات.."

عن الحالة الصحية لنجمة اليوم قالت والدتها :"لقد تمت إزالة الورم، بحمدالله وعونه، ونتائج الفحوص الطبية مطمئنة وايجابية جدًا، ونتوقع أن تغادر نجمة المستشفى عمّا قريب، لأنها شفيت.."

غنيّت ورقصت لأنسى أنني بعيدة عن غرفتي في أم الفحم..

هنا ، نظرنا إلى نجمة وسألناها عن نصيحة تهديها للأطفال المصابين بمثل ما أصيبت (شاهدوا الفيديو المرفق) فقالت بالبراءة ذاتها:"أود أن أخبرهم أن البكاء لا يفيد، وأنا لم أبكِ كثيرًا بل بقيت أحافظ على ضحكتي وكنت أمارس هوايتي المفضلة وهي الرقص والغناء، فقد كنت أغني في غرفتي في المستشفى وأنسى أنني لست في غرفتي في ام الفحم وبعيدة عن عائلتي"..!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]