قبل سنوات ثلاث، كتب رئيس تحرير إحدى الصحف الحزبية مقالة انتقد فيها بعض العادات السلبية الدخيلة على الشهر الفضيل، متطرقا لتحول شهر الصيام والقيام، الذي يفترض به أن يكون شهر الزهد بالدنيا والتقشف والشعور مع الفقراء وبجوعهم، إلى شهر للاستهلاك المكثـّف والتبذير والبذخ، وانشغال الصائمين طوال يومهم بالطبخ والنفخ وتجهيز ما لذ وطاب للإفطار وما بعده، بدلا من التعبد والتزهد. قد يكون يومها بالغ شيئا ما بسخريته الناقدة، مما أثار ثائرة الكثيرين عن اليمين وعن اليسار، فما كانت النتيجة إلا أن "طار رأس" رئيس التحرير، ودفع وظيفته ثمنا لنقده الموضوعي، وإن كان حادّا بعض الشيء.

قبل سنوات ثلاث مضت، كان ما يزال بالإمكان الادعاء أن شهر العبادة الذي تحول لشهر استهلاك بامتياز، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية، أهمها الخمول والقعود بدلا من المبادرة للفعل، كان بالإمكان بعد القول إن هذه الصفة المقيته احتلت كل زاوية ممكنة من زوايا الشهر، ولم تتجاوز إلا المساجد حيث العبادة الخالصة. كان هذا صحيحا وقتها، ولكنه لم يعد اليوم كذلك... فبعد المشاهد التي يندى لها الجبين، والتي سجلتها عدسة مراسلة موقع "بكرا" في الحرم القدسي الشريف في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من أكوام قمامة وبقايا طعام احتلت ساحات المسجد الأقصى المبارك، لا لشيء إلا لأن المصلين رغبوا بتناول طعام إفطارهم داخل الحرم، ولم يرغبوا بتنظيف المكان الذي من المفترض أن يركعوا ويسجدوا فيه ويحيوا ليلة من أقدس وأبرك الليالي، لم يعد بالإمكان القول إن ثقافة الاستهلاك البغيضة المبنية على الاتكالية والتطفل، والاهتمام بالأنا دون أدنى اهتمام بالمحيط من بشر (مجتمع) وحجر (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين) لم تقتحم المساجد من أوسع أبوابها، ومن أقدس أقداسها.... المسجد الأقصى المبارك الذي ما زال حلم الصلاة فيه ودوس ترابه المبارك حلما بعيد المنال بالنسبة لملايين العرب والمسلمين. فكيف سمح المؤتمنون على الرباط فيه وحوله لأنفسهم بتحويله إلى ما يشبه مكب نفايات؟!!! – حاشاه أن يكون كذلك-

علّق البعض بالقول إن هذا التقرير مبالغ فيه وهو مغرض يهدف للإساءة للأقصى وللقائمين عليه، وأن عملية تنظيف واسعة وشاملة تم القيام بها عند ساعات الفجر نظفت خلالها ساحات الحرم وأزيلت كل مظاهر الاتساخ. حتى لو كان هذا الأمر صحيحا، فإنه لا يلغي بعض الملاحظات التي لا بد منها:

- لماذا يجب أن تتحول ساحات المساجد، المخصصة للعبادة، إلى "مطاعم" مفتوحة يمارس فيها البشر عاداتهم الاستهلاكية السلبية التي كانت بعيدة عن أماكن العبادة الطاهرة؟ أوليس بالإمكان إيجاد طريقة أخرى أفضل من هذه لإقامة الإفطارات الجماعية خارج حدود المساجد؟!

- كيف يسمح المسلم لنفسه بالصلاة بين أكوام القمامة – بغض النظر إن كانت تلك داخل أو خارج حدود المسجد – وهو صاحب الدين الذي ينص على أن "النظافة من أركان الإيمان". وليس الحديث عن بقايا الطعام فحسب، بل عن أعقاب السجائر التي يرميها المصلون في الأرض التي سيضعون جبينهم عليها ساجدين بعد دقائق. ثم أليس حريا بالعلماء والفقهاء أن يحاربوا ويحرموا بمنتهى الصراحة عادة التدخين لكونها نوع من أنواع قتل النفس والذات التي حرّم الله في محكم التنزيل.

- ثم أن كل حملات التنظيف والتطهير لن تنجح في أن تمحو الخطايا وتجاوز الخطوط الحمراء عندما تقوم سيدة مسلمة جاءت لإحياء ليلة القدر بأخذ ابنتها الصغير إلى إحدى زوايا القبة المشرفة "لتقضي حاجتها بعيدا عن نظر الجموع"!!! داخل الحرم والمصلى. أي حملة تنظيف هي تلك التي ستمحو من ذهن هذه الطفلة فكرة أن من المسموح القيام بمثل هذه التصرفات في المساجد. رحم الله من قال يوما "إياكم والبصق في المساجد"، فهل بات من المتاح القيام بأمور أخرى أشد من البصق؟!

ليس من الواضح من هو المسؤول المباشر عن هذه المهزلة، لكن الأمر قد وقع وانتهى الموضوع، والأسوأ أن الضرر النفسي والتربوي والثقافي هو أيضا قد وقع مع تجاوز بعض الخطوط الحمراء التي كانت في الماضي، ويفترض أن تبقى، من المحرمات. لقد وقع المحظور وبات المسجد الأقصى في خطر حقيقي، ليس خطرا خارجيا إنما خطر من المؤتمنين عليه... ومن يعلم، ربما تأتي دولة الصهاينة غدا إلينا بطلب إخلاء الحرم القدسي لأننا نشكل عليه خطرا حقيقيا وعلى القيم الدينية والوطنية والمعنوية التي يحملها، ولأننا لا نستحق أن نحميه من غيرنا ما دمنا غير قادرين على حمايته من أنفسنا... إننا نسيء للأقصى وللقدس، ونشكل عليهما كل الخطر الممكن، ولذلك فإننا لا نستحقهما... إلا أن نغير ما في أنفسنا من سوء ونحميه مما نقترفه بحقه بأيدينا.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]