سنين طوال حضّرت عائلة حمدان، من أجل أن تزوج بكرِها، محمد، وجاءَ الموعد المُحدد، مساء الجمعة الثامن من تموز 2011، ليتوافد الحضور، وتنطلق الزغاريد والأغاني، ابتهاجًا بفرحة محمد وعروسه والعائلة.
وراء الكواليس، كان شقيق العريس أمير ينتقل من زاوية إلى زاويةٍ في الحي الشرقي ببلدة مجد الكروم، ليتأكد أنّ كل شيءٍ على ما يُرام وأنّ مراسيم العرس جاهزةٌ لا ينقصُها شيء، وليس فيها مَن يَشُعر بعدمِ الرضى.
مساء الجمعة، ليلة السهرة، شاركَ أمير أصدقائه عبر صفحة الفيسبوك، إذ عمّم صورًا خاصة له وللعائلة في العرس، وكتبَ هو: "يا ام العريس تهني عمرَت الدار"، و"فرحنا والله هداة البال".
لكنّ الفرحةَ لم تكتمل، طلقاتُ رصاصاتٍ طائشة خرجت لتسرق روحه وزهرة شبابه، لكنها – الرصاصة – لم تُميّز أنّه أمير، شقيق العريس، وأنه لا يستحق هذه النهاية، "لكننا... كثيرًا ما نخسرْ مَن نُحبهم، لأنّنا لم نُحسن الحفاظَ عليهم"، هكذا ردّد كثيرون ممن عرفوا المرحوم.
حُبٌ كبير ووداع يليق بأمير
في مجلس العزاء، بكى الجميع، نساءً أطفالاً وكبارًا، ودموعٌ لم تستطع أن تحبس نفسها في المُقل، انهمرت على الجبين، مأتمٌ تحولّ فيه اللون الأسود إلى أكثر الألوانِ عزاءً للعائلة.
بين المعزين والمعزيات، الصامتين والصامتات، كانت خالات المرحوم يتحدثن بسيرته، وكلما زادَ حديثهن صارَت حرقة العيون أكثر، قالت إحداهن: "نحنُ في النهاية سنعود إلى بيوتنا، نعيش حياتنا، لكنْ الله يصبر أمه وأباه، كيف سيدخلون غرفته، ويجمعون ملابسه، كلٌ شيءٍ من ذكراه ستبقى في البيت، أما هو فلن يعود".
وعنه تحدثن: "كان يدرس الحسابات، بقي له شهران ويُنهي دراسته، تعلّم وعمل نادلاً في إحدى المطاعم وشارك والدته العمل في دكانهم الصغير في حيهم المجدلاوي".
أمير أراده عرسًا يتحدث عنه الجميع
حدثتني إحدى خالاته، أنّ أمير رافق شقيقه العريس أثناء تجهيز الملابس واحتياجات العرس، وحين اختارَ "محمد" شقيقه بدلة عرسه، أخذَ أمير يبحث عن بدلة عرسٍ، راغبًا أن يرتديها في الفرح، لكنّ المرافقات وبينهن والدته وخالاته قلن له: "لا يا أمير، هكذا ستضيع بهجة العريس، ولن يعرف المُشاركين في العرس مَن هو العريس". وظلّ المرحوم غير مقتنع بكلامهن، رأى أحد أصدقائه وقد اشترى بدلةً أعجبته، فسأله مِن أين اشتريتها؟! فأخبره، ليعود مرة أخرى لوالدته ويُلح عليها بشراء بدلة، لكنْ من شدة حرصها على أن يتم الفرح دون تنغيص، أو لا "يُحسد الأشقاء"، اقتنعَ أمير وتنازل عن رغبته.
"أمير أصبح ذكريات، نتذكره طوال الوقت، نذكر مداعباته، وكيفَ كان قلقًا في العرس حريصًا على ألا يخرج أحد الضيوف ولم يتلقَ واجبًا من الضيافة كما يجب".
وتتابع الخالات اللواتي حرصن على ذكر محاسنه: "هل صنعتم الحلوى؟! هل قدمتن الواجبات للجميع، أينقصكن شيء؟! باختصار أريده عرسًا يتحدث عنه الجميع".
"لا يُمكننا نسيانه، أطفال الحارة يذكروننا به، كانَ لنا نِعمَ ابنَ الأخت، بل أكثر من ذلك، لم تكن علاقة قُربى، بقدرِ ما هي علاقة صداقة ومحبة، كان يملأ الجو حياةً وفرح".
"حنونًا كان، وبارًا بوالديه، لا يبخل عليهما بشيء يستطيع تقديمه، مطيعٌ ومتحدثٌ بحلوِ الكلام، رجلُ المواقِف، تحمّل مسؤولية كبيرة رغم أنه الوسط بين أشقائه الأربعة، ولشقيقته الصغرى معزة خاصة في القلبِ لأنها الوحيدة بينَهم، هي عائلة مترابطة، والقرارُ الأول والأخير فيها للوالد".
"صدمةٌ كبيرة خلفها رحيل أمير، عرفنا بنبأ وفاته بعد نصف ساعة، حاولوا أن يهونوا الموقف، قالوا هي إصابة متوسطة، توقفتْ أربعُ أعراسٍ أخرى في البلدة، تجمهرَ الشبابِ حين سقطَ أمير، ونُقل إلى المركز الطبي المجد في البلدة، وفقط حينَ باركَ لنا مسؤول الفرقة الموسيقية، عرفنا أنّ مكروهًا كبيرًا مسّ بأمير".
"وفي جنازته، شاركَ معظم شبان البلدة، فهو شخصٌ محبوبٌ وله علاقاتٌ مع كثيرين، رحمة الله عليه، كان خلوقًا، وسيلقى حُسن الختام، بإذن الله".
"مرام بدي صورة زي صور الأموات"
مرام، ابنة خالة أمير، مصوِّرة ماهرة، ظلّ يُلح عليها المرحوم ألا تترك لقطة في العرس إلا وتصوِّرها، ملأ الفيسبوك بصور العرس، وذات مرةٍ في تلك الأمسية وقفَ أمامها وقال لها بالحرفِ الواحد: "أريدك أن تصوريني صورة وجه فقط، صورة أموات"، "فال الله ولا فالك، تقلش هيك"، "قلت لكِ صوريني، ولما أموت أريدك أن تكبريها"، وأمام إلحاحه التقطتَ له صورةً ستُكبّر وتُعلّق في ردهة البيت.
"أمنية لم تتحقق"
في قلب والدته، الصابرة الثاكلة، أم محمد، حسرة كبيرة، وداخلها مشاعرُ كبيرة من الغضبِ والحزن والأسى لرحيلِ ابنها، زهرة الشباب ونور عيونها، أحبّت جميع أبنائها، هي الأمهات كذلك، لكن لأميرِ حزنٌ مختلف، كبير، بحجمِ المحبة التي تكنها له، عنه تحدثت: "كان قريبًا جدًا لي ولوالده، بقدرٍ أكبر من أشقائه، لأنّ معظم وقته كان يُمضيه معي إما في الدكان، أو في الحارةِ نسمع صوته وهو يجمع الأولاد الصغار، ويُشارك الأقارب والمحيطين بأحاديث شتى، وكيلٌ من المُزاح الخفيف".
بحسرةٍ ودموعٍ لا تتوقف قالت: "بتمنى يكونو كل الشباب بأخلاقه وبأدبه، كان مرتبًا، أنيقًا، هادئًا، مسؤولاً عن كل شيء، صائمٌ مصلي، حنون، لم يكن يطيق أن يراني حزينة، يسألني مالك؟! بدك أي اشي اطلبي مني، كان يصرف على الدكان من معاشه، عندما يشعُرُ أنّ شيئًا ما من الأغراض تنقصُنا، يعينني على وقفة الدكان، ريثما أنتهي من مشاغلي في البيت، سأذكرُ ابني صباح مساء، وكلما لمحتُ طفلاً في الحارة، كلما دخلتُ الدكان، عندما أدخلُ غرفته، فألمحُ من بعيد ضحكةٍ افتقدُ خلفها صورة وجهه، سأبكيه وأترحم عليه".
"الله يرحمو، معدش ينفع اشي اقولو بعدو". تتوقف قليلاً عن الحديث، تبكي بكاءً مريرًا: "شلع قلبي، الاشي الوحيد اللي مصبرني أنه كان خلوق، ومصلي، كان كل يوم الصبح يفقني ويفيق الحارة ع صلاة الصبح، لم يكن يدخن أو يتعاطى المُحرمات، الله يرحمو. مبيرح لما سمعت صوت طخ، حسيت الرصاصة صابت قلبي، يا ريت يبطلو هالطخ والفراقيع، أمير مكنش يحب الطخ، ولا أبوه، كان منبه عليهن ما يطوخو، بس خلص قسمته ونصيبه، حكولي كان رايح يمنع الشباب يطوخو، حتى ما يتضايق ابوه، شو بلاقو بالطخ، الفرحة مش ممكن تكون بالطخ، الله يهدي الشباب، والله يرحمه... يا حسرتي عليه".
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
رحمة الله عليه ويصبر اهلو انا لله وانا اليه راجعون ولا حوله ولا قوه الا بالله لا اعتراض على امر الله
الله يرحمه ويجعل مشواه الجنة ...واللهي انه مجتمعنا بدور حرق عن بكرة ابيه اي مجتمع بيطلق النار بالافراح او الكره غير ها الشعوب المتخلفه العربية