الحاجة أنيسة نمر-صديق (ام صالح الصديق) حرم المرحوم يوسف صدّيق، تحتفظ بذاكرة جيدة وبذكرياتٍ لا تُنسى، ورغم أنها تجاوزت التسعينَ من العمر، إلا أنّ الألم والوجع الفلسطيني منذُ الولادة، لم يكسر عزيمتها، ولم يحرمها مِن حلمها بإسعاد الآخرين، وهي الآن أصبحت جدة وأم لرجالٍ صنعوا تاريخًا ولهم أثرهم البارز في بناء المجتمع، كلهم أكاديميون وكلهم ذُخر هذا الوطن الذي تشتت عددٌ هائل من أبنائه بين مرفئي الوطن العربي والعالم الأجنبي الواسع.
كانت ام صالح، في الثلاثين من عمرها يومَ هُجرت وعائلتها إلى لبنان، ورأت أن تحدثني والأسى في القلب، والدمعةُ تقاوم العين: "كُنا نعيش على الزراعة (الفلاحة)، هذه "المصطبة" كانت مليئة بالقمح الذي نزرعه، كنت أغربل القمح، ولا نتركه على البيدر، تعبنا في العمل ليالٍ طوال، لنحفظ هذه المؤونة، ففاجأتنا إنذارات قدوم اليهود إلى البلاد، واضطررنا للرحيل لبنان، هربنا ليلاً، كان معي زوجي وأربعةٌ من ابنائي، اصغرهم "عبد الصديق" في الثالثة من عمره، مكثنا قرابة السنة، لكنّ حماتي بقيت في بيتنا، ترعى القمح المفرود على سطح الأرض. وبعد أقل من سنة وصلنا نداءٌ من الأهل في شفاعمرو كي نعود، كان أخي رحمة الله عليه، ابو نمر مختار شفاعمرو، ارسلَ من يبلغني بضرورة العودة أنا والأبناء، فعدنا، لكن زوجي بقيَ في لبنان قسرًا، بعد ذلك بفترة ارسلنا طلبًا لزوجي للعودة الى بيته".
"لبنان... تجربة قاسية، دقتُ فيها "الأمريْن"، في زحلة اللبنانية بعتُ أساوري لأشتري القليل من الخبز، وعندما قطعت "الرميش" عائدة الى هنا، كُنت خائفة أنا وأطفالنا، كدتُ أموت خوفًا، أما التعب والسير الطويل فقد هدّ أنفاسي، ومع ذلك كنتُ مصرة للعودة الى بيتي".
ذكريات لا تمحى
"الحكي مش مثل الشوف – تتابع ام صالح- دُقنا الويل، بعد ما كان بيتنا عامر، صرنا نشحذ حسينا بالذل... وطبعًا هذه نكبة، بل وأصعب النكبات، صحيح ان اليوم هنالك ويلات في غزة والعراق، لكننا ايضًا عشنا الكثير من المآسي، صارت حالتنا معدومة خاصةً ونحنُ في لبنان، قُتل الكثيرُ مِنا، شُردنا، عاد مَن عاد وبقي من بقي في لبنان وفي الأردن، وحالة معظمهم لا تسر عدو ولا صديق".
وتؤكِد بكلامها: "طبعًا نكبة، مش تركنا بيوتنا وهجينا وطلعنا، ما اخدناش اشي، ورحنا هناك صرنا غُرباء".
وتتابع: "حطونا في الارض ومشرّط علينا، جوزي اتخبى، انا رحت عند اهلي، مفكرة انه بيت المختار بتفتشش، (جيبي ولادك وتعالي)، اجيت انا تخبيت، أنا ومرة اخوي، قعدنا في السدة ع القمح المخزون، ووصلت اخبارية (فسدة) انه مرة صالح متخبية عند أهلها، اجى 5-6 يهود وانجليز، اتطلع وشافنا ع السدة، وانا مية من الخوف، وحامل... اجو يركبوني وبدهن يكبوني ع مرج ابن عامر، ركبت، وفي حينها، كان حياة ابو حاتم نمر محجوز في طوق عند القبور، فأرسل لأبو نمر، قالوا روح اسى نزل انيسة من السيارة والا بنط من فوق الشريط، (واذا نط فوق الشريط راح ينطخ).... نزلوني وروّحت ع دار أهلي، بهمة الرجال اللي اتدخلوه حياة اخوي أبو نمر، حياة حسين عليان، حياة الشيخ احمد، حياة صالح الحسن وغيرهم كتار، (كلهم صرنا نترحهم عليهم)".
وتتذكر زوجها، فتقول بمرارة: "الله يرحمك يا ابو صالح – تقول الزوجة أنيسة الصدّيق- ظلّ يبكي فراق أشقائه الذين لم يتمكنوا من العودة إلى الوطن، فاستقروا في سوريا ولبنان، كانوا يطلبون "حفنة تراب"، و"شوية حجارة" من فلسطين، ليشموا ريحتهم... يوسف كان يتألم لهذا الوداع، فكان يتنهد، ويحلو لَهُ التغني ببعض أبيات العتابا ع اللي فارقونا وتركوا الدار، حتى توفي بعيدًا عن حضن أشقائه".
راحت اختي في ال 48
"كُنا ثلاث شقيقات، فرحلت احداهُن قتلاً متأثرة بإصابةٍ انطلقت من مدفعٍ القاهُ اليهود عليها، وعلى احدى قريباتنا، فأصيبت هي الأخرى، توفيت اختي سريعًا. وفاتها شلعت قلبي أكثر من أي شيء آخر".
تقول الحاجة أم صالح: "أنا أعي جيدًا، انّ اليهود أيام زمان لم يكونوا أقوياء، بدون الدعم البريطاني والأمريكي، بريطانيا حاربت العرب، وساعدت اليهود في السلاح وفي الاموال، وانضحك ع قيادة العرب، التي كانت غارقة في نوم عميق". وتتابع: "صحيح انه كان هنالك ثوار وناضلوا وحتى قتل منهم الكثير، لكن ماذا يفعل الرجل الذي يركض في الوعر على قدميه أمام المسلح الذي يمتطي الخيل؟! ماذا عسى الثائر أن يفعل وهو بالكاد يلتقط لقمة سريعة ويتابع طريقه ركضًا".
"عندما أتذكر ما حصل وما نحنُ فيه، وعندما أشاهد اليوم ما يحصل للفلسطينيين، أبكي كثيرًا، بحرقة، "ياما ما اصعبو ياما"...".
"الخوف أصعب من ضرب السيف"
تقول ام صالح بأنّ الخوف كان وراء ما حصل من هجيج ومن اختباء، ومِن لا عودة الى الديار، تحدثني عن اخت زوجها (تحفة) التي نسيت ابنتها في السرير، ورافقت الجموع الهاربة إلى لبنان، وبعد أيام وبإرادةٍ من الله عادَت لها ابنتها، مع الذين انضموا الى اللاجئين في لبنان.
"كان سلاحهم الفتاك هو الإرهاب، وبث الذعر في نفوسنا، وأذكر تمامًا أنّ هنالك أربعُ بيوتٌ في شفاعمرو تمّ نسفها عن بكرة أبيها، بتهمة أنها تأوي الثوار وتسكنهم وتطعمهم، بيوت من طابقين سُوويت بالأرض تمامًا في العام 48".
"عدتُ أنا الى بيتي، لكن لي أقرباءٌ كثيرون في لبنان وفي سوريا وفي أمريكا والنرويج، بعضهم يعيش حياة قاسية والبعض الآخر يعمل وظروفه جيدة، لكن يبقى تراب الوطن، أغلى من كل شيء".
"ولا أنسى المجازر التي ارتكبت بحق الكثير من البلدات من أجل تخويف العرب، ليستسلموا ويقطعوا النفس، لا انسى ابنُ سلفي الذي ذُبح ليلاً لا لسبب، الا لأنه خرجَ لوحده من بيته".
وام صالح مثلها مثل غيرها من الفلسطينيين، لديها صورٌ كثيرة في الذاكرة، تأبى أن تفارق مخيلتها، لكنها تعيش على أمل أن يعود اللاجئون الى وطنهم، وأولهم أقربائها وأقرباء زوجها، الذين شتتهم المآسي التي توالت بعد ال 48، فلا النكبة استطاعت أن تحرم اللاجئون من حق العودة، ولا الماضي استطاعَ أن يجعل الذاكرة تنسى ما حصل... وها هي الحاجة – ابنةُ التسعين عامًا – تجلس على عتبةِ بيتها، تتحسر على غياب الشقيقة والزوج وعلى أيام فلسطين التي كانت عروسًا لم تهنئ طويلاً... لكنّها ما زالت تأمل أن تظل موجودة حتى يعود الحق إلى أصحابه، وتهدأ الأحوال، ويعود اللاجئون إلى الديار قريبًا... وتختم رجائها بقولها "الله يصلح الحال".
[email protected]
أضف تعليق