من مدينة الناصرة إلى مُخيم اليرموك، تحية إجلالٍ وإكبارٍ للشباب الذي حمل روحه على راحته، ولم يهاب كيد العدى. الشباب الذي رأى مصرعه وغدا إليه في الخُطى، فكانت رائحة عبير فلسطين تعبر السياج دون حدود تقف أمامها، ليحتضن نسيمها أصحاب الحق المسلوب - أبناءها، الذين كان مبتغاهم العبور إليها، دون التفكير بأي رادع من ألغام وجنود!

لقد أثارت مشاعري كإنسانة في المرتبة الأولى وكصحافية في المرتبة الثانية، الصور والفيديوهات التي تم نشرها على كافة وسائل الاعلام العربية والعالمية وطبعاً الإسرائيلية، بالإضافة إلى الفيسبوك واليوتيوب، التي أظهر شغف الشباب إلى الحرية، وتوقهم لتقبيل أرض فلسطين، فانحنيت لهم تقديراً لحبهم لأرض فلسطين الذي يكبر حبي لها بأضعاف، رغم الجفا والبُعد عنها، إلا أنهم متمسكون بالعودة إليها.

التواصل مع الشبان المشاركين بالمسيرة عبر الفيسبوك..

بعد مضي هذا النهار المؤلم أصبح يمتلكني فضول للتواصل معهم عبر الموقع الاجتماعي الفيسبوك، فقد قام الشباب بنشر العديد من الصور ومقاطع فيديو الخاصة بمشاركتهم في يوم الزحف أو يوم العودة كما أشار اليه بعضهم، وصور أُخرى للشهداء وتشييع جنازاتهم.

وكوني إبنة لقرية مهجرة ( صفورية)، لم أجد الصعوبة الكبيرة في التواصل مع أبناء العائلة المشاركين في الزحف على الحدود اللبنانية- الفلسطينية في مارون الرأس وعلى السورية- الفلسطينية في الجولان، لقد كنت متأكدة خلال مشاهدتي للأحداث أن مجموعة كبيرة من المشاركين في المسيرتين سيكون من أبناء العائلة، فكان لي الحظ في التواصل مع المشتركين بكلتيهما.

الأسئلة الأكثر محورية التي كانت تجول في ذهني، عن الدافع الذي حثهم على المشاركة رغم درايتهم بخطورة الأمر وعواقبه، وهل سيعيدون الكرة من جديد؟!

لقد كانت أجوبتهم جميعاً متشابهة، أن الوطن والحنين إليه هو الدافع الأول للقيام بهذه الخطوة الجريئة، والشباب الفلسطيني المشتاق لوطنه ولم يراه يدفعه للتضحية بروحه وبكل ما يملك بسبيل العودة إلى الوطن، وأن الشباب لم ولن ينسى فلسطين، وهذا ما ورثوه عن الآباء والأجداد، وإن العودة قريبة إنشاء الله.

سقوط مبارك.. ولدَ هاجس لفلسطينيي الشتات القيام بشيء مختلف اتجاه إسرائيل

يقول سعيد موعد، وهو مشارك في مسيرة العودة: بالنسبة للترتيبات التي سبقت المسيرة، من بعد سقوط مبارك كان هاجس لدى جميع فلسطينيي الشتات، أنه بات من الواجب القيام بعمل مختلف اتجاه (العدو) الإسرائيلي!

فقامت مجموعة من الشباب بالتخطيط في التوجه مباشرة إلى الحدود السورية- الفلسطينية، قبل ذكرى النكبة 15 أيار، ولكن الظروف التي تمر بها، سوريا الحبيبة على قلوبنا، دفعتنا لتأجيل الأمر، من ثُم قمنا بالتنسيق مع مجموعة العمل بلبنان.

الجدير بذكره، كما يقول سعيد موعد، أن الفكرة لم تكن تراودهم فقط، بل كان نفس الهاجس والإحساس موجود عند جميع الفلسطينيين، الذي شجعهم للاستعداد إلى مسيرة الزحف.

ويؤكد سعيد موعد، هُناك من يدعي أن الحكومة السورية هي من نظمت هذه المسيرة، أؤكد لهم أن الأمر غير صحيح، بل هي إرادة شعبية، بكل ما تعنيه الكلمة، ودخول المشاركين عبر الأسلاك الشائكة واقتحام الألغام كان مفاجئاً لكل المراقبين دون استثناء. كان لدينا إرادة تدفعنا لفعل إي شيء، حتى الموت.

حسام موعد: لم أخش على حياتي، كان همي إجتياز الحدود!

لأن العودة إلى الوطن فلسطين حق مسلوب ويأبى الفلسطينيون نسيانه، فكانت الدافع الأول الذي حثّ العديد من الشبان الفلسطينيين في المشاركة بالمسيرة، وكان من بين هؤلاء الشبان المحامي حُسام موعد- مخيم اليرموك.

وقال حُسام لموقع "بكرا": هذه المسيرة هي إثبات لرغبتنا في العودة، وهي رسالة إلى العالم لنؤكد بعدم تخلينا عن حق العودة، ولكي لا يتجرأ أي مفاوض بالتفكير عن التنازل عنها.

ويتابع حُسام حديثه، لسوء حظي لم أكن ضمن الدفعة الأولى التي وصلت الحدود، لهذا هاجس انفجار الألغام لم يكن يراودني، لحظة العبور لم أُفكر برصاص جنود الاحتلال، لم أخشى على حياتي، كان همي اجتياز الحدود.

وأُريد أن أُنوه لنقطة مهمة جداً، مع كل إطلاقة رصاص، كان حماس الشباب يزيد أكثر فأكثر، وعند إصابة شخص منا، كان ثلاثة أو أربعة أفراد منا يقوموا بمساعدته ويدخل بدلهم عشرة.

إصابة أنس إبن عمي ، وإختناق والدي بسبب الغاز..

وأكمل حُسام حديثه ليصف لنا شعوره في اجتياز حقل الألغام والحدود، الذي يمكننا مشاهدته من خلال الفيديو المرفق مع التقرير الذي قام هو بتصويره، متأسفاً لعدم رؤيته لفلسطين رغم إختراقه الحدود، وقال: لم أفكر في تلك اللحظة إلا بالنصر أو الشهادة، لكن إصابة إبن عمي أنس برصاص جندي إسرائيلي من مسافة قريبة وصفت حالته بالحرجة، وإختناق والدي بالغاز المسيل للدموع دفعني بكل أسف بالانسحاب لمساعدتهما، وإعادة والدي إلى الطرف الآخر. لقد قام الجنود بإطلاق الرصاص علينا قبل وصولنا إلى الحدود.

وتابع حُسام، كل يوم تتجدد أمنيتي ألف مرة في إختراق الحدود، لا أحلم بزيارة صفورية إنما العودة للعيش فيها.

عبور الحدود وحقول الألغام الصدأة...إلى مجدل شمس والصلاة فيها

لا يزال أمر عبور الشبان الفلسطينيين والسوريين فوق حقل الألغام واجتياز الحدود السورية- الفلسطينية، في ذكرى النكبة بمجدل شمس يشغل الناس جميعاً، ومن ضمنهم الحكومة الإسرائيلية التي أثبتت سهولة إختراقها وعجزها لمراقبة الحدود أمام العالم وخاصة وسائل الاعلام والمحللين السياسيين.

كانت هذه المرة الأولى التي يرى فيها سُكان الجولان المحتل اختراق الحدود القسرية التي وضعها الإحتلال ليفرقهم عن أبناء جلدتهم.

يصف لنا رشيد هشام موعد، خوف أهالي مجدل شمس، من أن تنفجر الألغام عليهم، وكانوا يصرخوا في وجوهنا بعدم الاقتراب، وعند إصرارنا بعبور الحاجز، طلبوا منا نية التشاهد.

كانت هذه المرة الأولى التي يشاهدوا بها قادميين من الطرف السوري يعبر السياج الحدودي، ويجتاز حقل الألغام.

إثر عبورنا للسياج، كان ترحيب أهالي مجدل شمس بنا كبيراً، فقاموا بإحتضاننا وتقبيلنا، وقدموا لنا حُسن الضيافة، من أكل وشُرب، لم يكن أي تقصير من جانبهم، حتى أنهم قاموا بتوزيع البصل علينا، عندما بدأ الجنود في إطلاق غاز مسيل الدموع، كي تخفف من حالات الإختناق، إضافة إلى ذلك قاموا بجلب الحجارة لنرميها على ( الصهاينة).

ويتابع رشيد بحديثه، لقد أمّ أحد الشيوخ المشاركين بالمسيرة لإقامة الصلاة على أراضي مجدل شمس، كانت هذه أجمل صلاة أقوم بها، عند كل سجدة كنت أشم رائحة الأرض، التي كانت مثل المسك، تشبه رائحة أجدادنا وآبائنا.

تدخل وجهاء مجدل شمس بحماية ( الثوار)..

وتابع رشيد حديثه، عند تزايد عدد الجرحى من الطرفين، قمنا بالتراجع إلى بعد السياج بإتجاه الأراضي المحررة، لكن مجموعة من ( الثوار) المشاركين في المسيرة، بقيوا على الأراضي المحتلة، وتمت محاصرتهم من قبل جنود الجيش الإسرائيلي، وهُنا أقدر وقفة شيوخ ووجهاء مجدل شمس الذين قاموا بحماية الشبان، ولم يسمحوا للجنود بالاعتداء عليهم والإفراج عنهم وإعادتهم للأراضي السورية المحررة، لقد انتهت مسيرتنا بعدد كبير من الجرحى وأربعة شهداء قام بتوديعهم سكان مجدل شمس بالورود.

محمد منير موعد: لقد توقعنا الموت لكن لم نخاف على أرواحنا!

كان الدافع الأول عند محمد للمشاركة بالمسيرة حبه لفلسطين، وليؤكد للعالم عن حقه بالعودة إليها، لم يخش كغيره من الشبان حقول الألغام ولا رصاص الجنود الإسرائيليين، لكن خلال تلك اللحظة لم يكن أحداً منهم يعي خطورة الموقف، كان شغف التحدي يدفعهم لتخطي الحدود، لم يكن أحدهم يفكر بالإصابة أو الموت.

وحدثنا محمد منير الموعد، الذي كان من بين المشاركين بالمسيرة، أنه كان من المتوقع بالنسبة لهم إحتمال سقوط جرحى وشهداء، لأن الأمر كان إرادة لعبور الحدود، ومجازفة بأرواحهم بالوقت ذاته.

وقد أشار أن عدد الإصابات كان كبيراً، بين اختناق بالغاز والرصاص، حيثُ وصل عدد الجرحي حسب تقديره إلى 75 جريحا، وإستشهاد 4 شبان، وهم: عبيدة زغموت وقيس ابو الهيجا و بشارسامر الشهابي وهم من مخيم اليرموك، وقد شيعت جثامينهم في جنازة مُهيبة كان بمشاركة تعدت آلاف الفلسطينيين والسوريين، وبحضور جميع قادة الفصائل الفلسطينية، التي تواجدت خلال ثلاثة أيام العزاء.

مخيم اليرموك يودع شهداءه ويتعود للعودة!

وتستمر إرادة الشباب في تحقيق الانتفاضة الثالثة، فلم يردعهم الرصاص أو الموت، وعند سؤالهم، هل ستعيدون الكرة، كان الجواب أكيد!

ومن الملفت أيضاً نشر العديد من الصفحات عبر الفيسبوك، تؤكد استمرار الانتفاضة الثالثة، وصفحة أخرى بإسم إنتفاضة العودة، ويوم زحف آخر يصادف تاريخه مع يوم النكسة.. لا رادع ولا خوف يقف أمام إرادة الشباب للموت في سبيل العودة إلى الوطن، فموجة الثورات في البلدان العربية، من المؤكد أن يصل نقطة منها إلى فلسطين.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]