لا بد أن بعضكم قد قرأ عبر عدد من وسائل الإعلام المكتوبة عن السيدة عزية بدوي، وتعرف على قصة نجاح هذه السيدة العصامية، وهي الناشطة الاجتماعية والنسوية، التي أبت إلا أن تتحمل الكثير من المشاق لكي تحول الأشواك في طريقها الى ورود، وتحقق نجاحًا كبيرًا على جميع الأصعدة. الأمر المختلف في حوارنا معها هذه المرة هو أننا طرقنا بابًا جديدًا في حياتها لم تكن قد تطرقت إليه في أي من حواراتها الصحفيّة السابقة. فلهذه المرأة الناجحة جانب إنساني يعكس عظمة الأم وعطائها، وستتعرفون، من خلاله، على قصة امرأة استطاعت أن ترّبي طفلين كفيفين وتدعمهما معنويًا وماديًا ليصل كل منهما إلى مكانة يحسد عليها، في ظل الظروف الخاصة التي يعاني منها. فابنها الأول سامر، يحمل اليوم شهادتي ماجستير من جامعة القدس: الأولى في إدارة المؤسسات الجماهيرية، والثانية في إدارة الجمعيات غير الربحية. بينما يشغل ابنها الآخر محمد، أحد مقاعد السنة الأولى في جامعة تل أبيب ليتخصص كعامل اجتماعي .

وما لا يصعب توقعه هنا ، هو أن رحلة هذه الأم مع ولديها كانت مليئة بالمشقات والمصاعب والدموع. فإليكم القصة الكاملة حصرًا لكم قراءنا ..

ابني سامر غيّر لي مسار حياتي ..

بدأت عزيـّة حديثها معنا قائلة: "لقد تزوجت بعمر 16 عامًا، وأنجبت في عمر الـ 19 طفلي الثاني سامر، الذي غيّر لي مسار حياتي. لا أزال أذكر يوم تلقيت نتيجة الفحص الطبي الذي أكد لي أن ولدي كفيف وأنه لن يرى النور طوال حياته. لا أزال أذكر أني، وبالرغم من ذلك الخبر الذي وقع علي كما الفاجعة، قررت أن أرعى سامر وأحافظ عليه، حتى لو كلفني ذلك حياتي. وعليه، بدأت أعامله كأي طفل عادي، بل ورسمت له طريقًا يضمن له التفوق إذا التزم به وعمل بجد لتخطيه".

تحدّيت المجتمع وسافرت من كفر قاسم إلى طولكرم لتعلم الخياطة..
تابعت: "لقد كنت أود أن أحقق حلمي الذي لم يتحقق بدخول الجامعة، وذلك عن طريق سامر. إضافة إلى قناعتي أن العلم هو السبيل الوحيد لنجاح أي إنسان يعاني من ظروف كظروف سامر في حياته، لكن المشكلة الكبرى التي واجهتني كانت مشكلة ماديّة، حيث أننا ننتمي لأسرة متوسطة الحال تعيش حياتها يومًا بيوم. لذا، كان علي أن أخرج للعمل بهدف تأمين دخل ثانٍ يضاف إلى الدخل الرئيس الذي يجنيه زوجي من أجل دعم ولدي في طريقه.

زادت (متنهدة وكأنها تسترجع هذا الموقف الذي مضى عليه أكثر من 30 عامًا): "قبيل الإقدام على خطوة الخروج للعمل، تساءلت إن كان بإمكاني حقا التوفيق بين عملي وبين رعاية سامر وبقية العائلة، والحفاظ على بيتي من الإهمال. لكنني كنت قد قررت أن أجازف لتحقيق هدفي، والحمد لله، استطعت أن أجد دورة تدريبية للخياطة في مدينة طولكرم فانتسبت لها وسافرت من كفر قاسم إلى طولكرم طوال مدة هذه الدورة التي تخرجت منها بنجاح. وقد كان هذان الشهران مليئان بالعقبات والتحديات، فسفر امرأة من مكان لآخر لوحدها في سنوات الثمانينات كان بمثابة تحدٍ لمجتمع كامل يرفض بغالبيته مثل هذا الأمر، حتى وإن كان هذا السفر بداعي العلم أو العمل. لكنني استطعت تخطي هذه العقبات بثبات وعزيمة".

زرعتُ شجرة "ليف" وبعت ثمرها لشراء آلة خياطة..
وأضافت بدوي: "بعد تخرجي من دورة الخياطة، كان سامر قد بدأ يكبر، وبدأ حلمي يقترب أكثر فأكثر من إمكانية تحقيقه. لذا كان علي شراء آلة خياطة صغيرة لأتمكن من العمل وتوفير المال لدراسته الجامعيّة. وبما أن ثمن آلة الخياطة لم يكن متوفرًا حينها، قمت بزراعة شجرة (لـيف) في حديقة المنزل وصرت أبيع ما تنتجه هذه الشجرة وأوفر المردود المادي حتى تمكنت، وبعد مدة ليست بالقصيرة، من شراء آلة الخياطة التي طوّرت حياتي الاقتصاديّة وحسنتها، بالإضافة إلى أنها حققت لي انتشارًا واسعًا في محيطي الضيّق كخيّاطة محترفة، وبتُّ ملزمة أن أوسّع عملي وافتتح أول مشغل للخياطة في كفر قاسم، والذي ضم بين جدرانه عدة فتيات بتن يعملن فيه ويرتزقن منه. هكذا بدأت أحقق ذاتي أثناء محاربتي من اجل تحقيق حلم ولدي سامر الذي أعتبره الدافع الأهم للنجاح الذي أعيشه اليوم .

بعد 14 عامًا أنجبتُ طفلاً كفيفًا آخر ..
وقالت: "مع بداية شعوري بالسعادة والاطمئنان، حدث ما لم يكن متوقعًا. فبعد 14 عامًا من ولادة سامر، أنجبت طفلاً جديدًا أسميته محمد. ولا أخفي أحدًا أني كنت أشعر أن محمدًا سيكون كفيفًا هو الآخر، حتى قبل أن أراه ومنذ أن كان جنينًا في بطني.  لكن الصدمة الثانية كانت أسهل علي بأشواط من تلك التي واجهتها يوم ولادة سامر. فقد كنت مهيأة نفسيًا لاستقبال طفل كفيف آخر..!

"يمّا أنا بديش أكون زي سامر ،، لاقيلي حل عشان أصير أشوف.."
ولكي أكون صادقة، علي الاعتراف بأني شعرتُ بحرقة وألم كبيرين لأنني أيقنت أني سأبدأ معركة جديدة تضاف إلى معاركي السابقة، ناهيك عن أن محمد، وهو في عمر 4 سنوات، صار يعلن رفضه القاطع لفكرة فقدانه البصر. وقد قال لي ذات مرة والدموع تملأ خديه :"يمّا أنا بديش أكون زي سامر ،، لاقيلي حل عشان أصير أشوف.."

وهنا قطعت مع محمد دربًا شائكة وطويلة لأنقله من فكرة الرفض القاطع لقدره إلى فكرة قبوله هذا القدر والتعايش معه. فقد شرحت له مرارًا إن هذه "الإعاقة" لن تعيقه عن النجاح والتميز بالرغم من إنها سترافقه طوال حياته، كنت أضمه إلى صدري وأبكي طويلاً وأقول له :"إنتِ أحلى ولد يمّا .. تبكيش"..!

رغم إنشغالي بأولادي فإنني لم أنس نفسي..
تابعت عزّية حديثها معنا بفخر واضح ينضح من صوتها وقالت: "إن سامر اليوم يحمل شهادتي ماجستير من جامعة القدس، الأولى في إدارة المؤسسات الجماهيرية، والثانية في إدارة الجمعيات غير الربحية، إضافة إلى ذلك فقد حاز مؤخرًا على شهادة "عامل ممتاز" من شركة المراكز الجماهيرية في القدس، وهو الشاب العربي الوحيد الذي حاز على هذه الشهادة، بينما يشغل محمد أحد مقاعد السنة الأولى في جامعة تل أبيب ليتخصص كعامل اجتماعي. أنا فخورة جدًا بهما، فهما شابان يافعان مليئان ثقة بنفسيهما ويحققان النجاح يومًا بعد يوم دون الجلوس في زاوية البيت والبكاء على حظهما في هذه الحياة. إضافة إلى ذلك، فإن على جميع من يقرأ هذه السطور أن يعرف أنني لم أتجاهل نفسي على حساب نجاح أبنائي، فأنا أمتلك اليوم أكبر محل لتجهيز العرائس في كفر قاسم إضافة إلى أني أول من بادر لإقامة معرض عربي لأصحاب المصالح في البلاد العام الماضي.  وعليه فإنني فخورة جدًا بنفسي وبرحلتي الجميلة في هذه الحياة .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]