يصادف ، في يوم الأحد السابع عشر من نيسان ، "يوم الأسير الفلسطيني" والذي تخرج خلاله تظاهرات عديدة في مختلف مناطق السلطة الفلسطينيّة لتطالب بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيليّة ، بالإضافة إلى عدة مطالب أهمها تحسين الظروف الحياتية داخل هذه السجون وتوفير خدمات طبيّة للأسرى الذين يعانون من أمراض مزمنة وأخرى مميتة خلف الأسوار.

وقد استضاف ، موقع "بكرا" ، بهذه المناسبة السيدة ناديا زعبي-جيّوسي من مدينة طولكرم الفلسطينية ، والدة الأسير حاتم جيّوسي الذي حكم عليه بالسجن لمدة 6 مؤبدات و55 عامًا إضافيًا فوقها ..

ولمن يرى إن هذا الحكم خارج عن إطار المنطق مقارنة بمعدل عمر الإنسان، سنترككم مع تفاصيل "غير منطقية" أخرى اضطرت السيدة ناديا أن تعيشها وأبنائها الثلاثة بسبب ضغوط الاحتلال وقسوته..

عند دخول أم حاتم إلى مكاتبنا في الناصرة صافحتنا جميعًا بينما ترتسم على ملامحها ابتسامة تشع ودًا وأمومة ، جلست بكل وقار وأجابت على أسئلتنا بالود ذاته دون أن تفارق تلك الابتسامة محيّاها ..

اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد عام واحد من العودة إلى طولكرم ..

بدأت ناديا الحديث قائلة : عدت لأعيش في طولكرم مع أولادي الثلاثة ، حاتم ومحمد وبهاء ، في عام 1987 بعد سنوات طويلة ، ما يقارب الـ 21 عامًا ، قضيناها في الاغتراب في دول الخليج وبعد وصولنا بفترة وجيزة اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى وعمّت الفوضى مناطق السلطة الفلسطينية جمعاء ، فقررت عندها أن أرسل ابني الأكبر حاتم إلى روسيا لدراسة موضوع "فني أسنان" وذلك لغايتي في أن يبتعد عن مجرى الانتفاضة خشية عليه خاصة وإنه ، تقصد حاتم ، يعد شخصًا انفعاليًا وكان من الخطر جدًا إبقائه في أراضي السلطة في هذا التوقيت ..

تابعت ناديا وقد ارتسمت ابتسامة غامضة على وجهها وقالت : لا أزال أذكر يوم عاد حاتم إلى طولكرم بعد تخرجه عام 1992 ، فقد قام بعد أن عانقني بإخراج شهادته من إحدى الحقائب التي تحوي أغراضه ، ناولني إياها وقال : "هاي شهادتي يمّا .. أنا عملت إللي بدّك إياه .. وإسا دوري أنا أعمل إللي بدي إيّاه" ..!

كنت أقضي الليالي ساهرة أمام شباك الغرفة في انتظار أن يطل علي ولدي ..

زادت : لم أعرف يومها ما كان يعنيه حاتم بكلامه لكنني فهمت في مطلع عام 1997 بعد أن بدأت تصلني الأخبار بأن ولدي الأكبر مطارد من قبل قوات الاحتلال ، بالإضافة إلى وصول أخبار أخرى تفيد إن حاتم يعتبر واحدًا من المؤسسين لحركة كتائب الأقصى ، عندها صُدمتُ وشعرت بالخوف يملأ قلبي ويعتصره على مصير ابني ، فإنني وإخوته لم نكن نعرف عن أخباره أي شيء ، لا أين ينام أو أين يأكل أو حتى إن كان لا يزال حيًا وبخير ..!

هنا ، تنهدت ناديا نصف تنهيدة أتت حارقة وكأنها تعيش هذه الأيام الصعبة من جديد ولكن هذه المرّة بحضورنا ، ثم تابعت قائلة : كنت أتوجه إلى المخيمات الموجودة في المدينة لأسأل عن مكان وجود ابني وأحاول بكل قواي أن أحصل على أية معلومة مهما كانت صغيرة وعادية لأتأكد إنه بخير ..

لقد كانت أيامًا طويلة لا تمر ، زادت أم حاتم ، كنت أقضي لياليها ساهرة أمام شباك الغرفة في انتظار أن يطل علي حاتم ..

"الجنود قبضوا على ابنك يا إم حاتم"..

في الساعة الخامسة والنصف من فجر اليوم الواحد والعشرون من شباط عام 2003 وصلتني أخبار تفيد إنه قد تم إلقاء القبض على حاتم الذي كان مختبئًا في مخيم "نور شمس" الموجود في طولكرم ، بعد أن حاصرت قوات الاحتلال مداخله ومخارجه ، المخيم ، منذ الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم العشرون من أيام الشهر نفسه ، حيث علمت إنهم ، تقصد قوات الاحتلال ، قد قاموا بتفجير البيت الذي يختبئ فيه ولدي غير إنه ، وبحمد الله ، لم يُصب بأذى ، وألقوا القبض عليه وتم تسليمه لرئيس حاجز الطيبة لينقل بعدها إلى سجن "الجلمة" لمدة 45 يومًا كنت خلالها منقطعة تمامًا عن أي خبر يخص ابني ..

وبعد فترة تجاوزت الثلاثة أشهر في "الجلمة" تم نقل حاتم إلى سجن "عسقلان" ليبقى فيه مدة قليلة وينقل بعدها إلى سجن "هداريم" وهو المكان الذي استطعت أن أرى وجه ولدي فيه بعد شوق مدته سته أعوام كاملة ..

الدموع كانت لغتي الوحيدة خلال زيارتي الأولى لحاتم في السجن ..

قبيل أسبوع من موعد الزيارة بدأت أعمل على إنهاء الإجراءات اللازمة لها ، حيث إنه من المفترض علينا أن نقوم ببعض الإجراءات الضرورية في الصليب الأحمر قبيل موعد الزيارة ، وقد مر هذا الأسبوع علي بصعوبة بالغة كنت أقول في نفسي دومًا : أهذا هو مصير ابني الذي ربيته "كل شبر بنذر" ، كما يقال ، وعلمته في الجامعة وانتظرت تخرجه بفارغ الصبر ليعود ويساعدني على تربية اشقائه..؟

كنت غاضبة جدًا على هذا المصير الذي لم يلقاه ابني والعديد من الشبان والشابات الفلسطينيات لمجرد أنهم خلقوا فلسطينيين .. وهذا هو كل ذنبهم..!

تابعت : أخذت معي ، للقاء حاتم ، بعض الأغراض الضرورية واللوازم الأساسية التي كنت أنوي أن أعطيها لحاتم ليستخدمها في أسره ، كغطاء صغير يدفئه ، وبعض الملابس الداخلية ، غير إن إدارة السجن رفضت إيصال هذه الأشياء البسيطة له ، وأعادتها معي ..

حين دخلت إلى المكان الذي سألتقي ابني فيه كنت متلهفة احمل قلبًا يتراقص في اضلعي ، وبعد دقائق أدخلوه إلي ، كان مقيدًا بالسلاسل لا يستطيع التحرك بحريّة ، وعلى وجهه ابتسامة عريضة يدلني فيها على إنه بخير وسعيد بلقائي ..

عندها ، أجهشت بالبكاء ، لم أستطع أن أنبس بكلمة من فرط الدمع المنهمر على وجنتّي لكن حاتم كان متماسكًا فقال لي بهدوئه المعتاد وبصوته الذي اشتقته : "إمسحي دموعك يما .. كل شي تمام هون وأنا منيح ..!"

احتفلت بعيد ميلاد حاتم الأربعين وغنيتُ لصورته : سنه حلوة يا جميل..

إنني أزور حاتم كل 15 يومًا في سجن "نفحة" في النقب ، الذي نقل إليه قبل مدة ، وبالرغم من مضي 9 سنوات على سجنه لم أتعود بعد على فكرة غيابه فلا زلت حتى اليوم أتمنى أن أرتشف فنجان قهوتي الصباحي برفقته ، وقد احتفلت ، قبيل مدة ، بعيد ميلاده الأربعين حيث قمت بإحضار كعكة العيد وأضأت الشموع أمام صورته وغنيتُ له : سنه حلوة يا جميل..

وأضافت : كما إنني أقوم كل ليلة ، خلال أحلام يقظتي ، بتزويج حاتم مرة أو اثنتين على الأقل ، وأعترف إنني أشتاق خفة ظله وهدوءه وأحمل إيمانًا كبيرًا بأنني سأراه حرًا من جديد ..

على فتح وحماس العمل بجد على إنهاء مهزلة الانقسام ..

هنا ، سألناها إن كانت تعتقد إنه لمن الممكن فعلاً أن يكون ولدها حرًا طليقًا بين أحضان عائلته من جديد رغم فترة الحكم اللامنطقية التي يقضيها حاتم خلف الأسوار ، فقالت بثقة : أجل إنني أعتقد إن هذا الأمر وارد الحدوث في حال تم إنهاء مهزلة الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني واستجابت حماس لمطالب أبو مازن بالجلوس والحوار ، على أن يتم خلال هذا اللقاء وضع مشكلة الأسرى الفلسطينيين ، الذين يصل عددهم إلى ما يقارب الـ 8000 أسير وأسيرة في السجون الإسرائيليّة ، على سلم الأولويّات ..

ختمت أم حاتم حديثها قائلة : "مهما حصل سيبقى أملي برؤية حاتم حرًا طليقًا متقدًا بداخلي ، فلولا الأمل لما عشنا .."

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]