شاءت الظروف أن يرتبط آذارُ بالمشاعر الإنسانية التي تخص المرأة، فالثامن من آذار يومٌ خاص بالمرأة، تجمعُ فيه مشاعرها كأنثى وامرأة وأمٌ وصاحبة مكانة وتأثير على المجتمع، ثم يوم الأم بِما فيه من مشاعر رقيقة، ومن خلاله يحاول العالم أن يؤكد دور الأم وما تقدمه من تضحيات في سبيل أبنائها ومجتمعها، ثم يأتي يوم الأرض، الأم، التي تربي شعبها على حبها، وعلى التضحيةِ من أجلها، ومَن لا أرض له، لا أم ولا وطن ولا مكان له.

مشاعرٌ سعيدة تملؤنا عندما تحتضننا الأرض بعد غياب، في ما يقسو علينا الزمن ويجرح مشاعرنا إذا ما انتُزعت أرضنا وشُردنا عن بيوتنا...

مشاهدُ صارت مألوفة في حياة الفلسطيني، الذي لا يفرّق بين أرضه وأمه، ففي كلا الحالتين فقدانٌ لا يمكن التعويض عنه... هكذا تشعرُ كلُ سيدةٍ ذات كرامةٍ واعتزازٍ ووطنية.

وهذا لقاءٌ خاص، يجمعُنا بثلاث سيدات تربطهن علاقة خاصة بيوم الأرض، وتعتبرُ كُلُ واحدةٍ منهن أنّ حكاية عشقٍ وحنينٍ يربطها بالأرض ويوطِد علاقتها بأمها، أولهن والدة الأسير ربيع حسين، التي عاشت تجربة انتظار طويلة حتى تحرّر ابنها من الأسر، والسيدة وردة بكراوي، أسيرة أمنية سابقة، والسيدة صبحية أبو ريا، زوجة شهيد الأرض رجا أبو ريا...

أم الأسير ربيع: علاقتي بالأرض منذ ولادتي

ديانا حسين، مربية متقاعدة، أمٌ لثلاثة أبناء، رامي هو البكر، أما ربيع الذي يصغره بثلاث سنوات فهو الأسير الأمني الذي خرجَ من سجنه في 21 نيسان الماضي، بعد أن أمضى تسعُ سنواتٍ من حياته في السجن.

عن تجربتها، تقول ام ربيع: "أنا سعيدة بوجود ابني بيننا، ملأ البيت بالحيوية، لقد ارتحتُ من معاناة الزيارات والسفر الطويل، مع ذلك لم يخفّ همي، وطالما أن ربيع غيرُ سعيد لأنّ رفاقه الأسرى ما زالوا في السجن، فإنّ باله لن يهدأ وأنا لن أهنأ".

وتضيف: "ما زالت بطاقات المعايدة تصلني منهم "كيف حالك يا أمي؟"... فرحتي لن تكتمل إلا بعودة هؤلاء إلى أحضان أهاليهم، وكلُ عيدٍ يمرُ علينا وما زالَ هناك أسيرٌ في سجنه، فإنّ طعم العيد لا يحلو لي".

وتقول: "لا أنتظر مناسبات العيد، على اختلافها، ما يهمني أن يستيقظ ربيع، أسمع منه صباح الخير ويقبلني، لكن لا تكتمل الفرحة إلا بتحرير الأسرى والأسيرات".

أم ربيع: تجربتي أقل قسوةً مِن تجارب أمهات كثيرات!

وتضيف أم الأسير ربيع: "كانت السنة الأولى أصعب مرحلة في حياتي، بعدها صرتُ أرى أهالي الأسرى فهانت عليّ قسوة الحياة، 9 سنوات تمرُ بسرعة، وماذا بشأن المؤبدات؟! أمهات يجرجرن أذايلهن، متكآت على عكازهن، منذ 20 سنة، ليلتقين أبناءهن عبر الزجاج. وسهّل عليّ تحمل الوضع، أنني تطوعت في جمعية "أنصار السجين"، فصرتُ أساعد الأهل في نقل الرسائل وفي تقديم شكاوٍ للمحامين لمساعدتهم، كل عائلة ومأساتها، يمرُ الأسبوعين بلمحةٍ لتنتظري اسبوعين آخريْن. وكلما حصّلنا انجازًا لمصلحة الأسرى فاجأتنا إدارة السجن بقوانين أخرى، نأخذ معنا طعامًا من البيت حفنة زعترٍ وزجاجة زيت، ليمنعونا من إدخالها، ولا مبررات كافية للتقييدات التي يواجهها الأهل".

وتقول: وأصعب ما كُنّ يتعرضن له امهات الأسرى مرحلة التفتيش، "يمرمرون الأمهات"، توقفي، ارجعي إلى الوراء، ادخلي، فأم كريم يونس وأم مخلص برغال نساء هدّهُنّ الكِبر والتعب، يعانيْن هذه القسوة، خاصة أم مخلص ففي رجليها "بلاتين"، وكل مرةٍ تدخلُ فيها عبر جهاز التفتيش تعاني مِن هذه الاستفزازات.

وتضيف: وزيارة السجناء معاناة لا تنتهي، ساعاتٍ طوال تقضيها بانتظار الزيارة، لتتحدثي مع ابنك دون لمسٍ لأقل من ساعةٍ.

الأم والأرض!

وتقول السيدة ديانا حسين: لم يكن أسر ابني سببًا في علاقتي الخاصة بالأرض، لكنه بالتأكيد زادَ من علاقتي، عشقي للأرض زرعه أهلي بي، لطالما شاركتُ في يوم الأرض الخالد، إلا أنّ الأسر وهذا البُعد القسري عن ابني زادَ من ارتباطي بِه وارتباطه بي، وفي المقابل عزّز مِن ارتباطنا بهذا الوطن، الذي مِن أجله تعذبنا، وفي سبيله نستطيع أن نتجاوز قسوة السجن والسجان.

وتضيف قائلة: "يسعدني أن أرى هذه المنطقة التي تحيط بدير حنا وقد استعدناها مِن يد الجيش الإسرائيلي. يكفيني النظر في هذه الطبيعة الجميلة لأشعر بالراحة النفسية وبالحضن الدافئ، وما يجري من تضييق وخنق للفلسطينيين في أرضهم، ليسَ له إلا الرد الوحيد الحفاظ على هذه الأرض، ولا شيء أثمن من هذه الأرض".

وردة بكراوي: فارقتني أمي ولن أسمح لأحد بإبعادي عن أرضي!

كان يومُ تحريرها كالعرسِ وأكثر، حملوها ورقصوا بها وهللوا، وغنوا للوطن، في الـ 20 من حزيران عام 2010، كان موعدها مع الحرية، بعد ثماني سنوات من الأسر، عن تجربتها تحدثت: "كان أصعبُ خبرٍ تلقيتُه أثناء اعتقالي مرض والدتي بسرطان "البنكرياس"، وفي آخر شهرين قبل وفاتها، لم يتسنَ لنا اللقاء".

وتقول بكراوي: "تستّروا على خبر مرضها، لكنني يومَ رأيتها مرهقة لم أصدق أنه إعياءٌ عادي، حتى اعترفت زميلاتي ممن لم يخبرنني عن مرض والدتي، انها ستموت، شعرتُ يومها بقسوة الحياة، وبمرارة هذا السجن الذي حرمني من حضنِ أمي".

وتضيف: وحين التقينا للمرة الأخيرة أيامَ سجني، احتضنتها وقبلتها يومَ اشتدَ عليها المرض، وقدّمتُ طلبًا باللقاء المفتوح، ويومها بكينا طويلاً... ثم غابت عني إلى الأبد، قالت لي يومها "خليكي قوية يا إمي"، "كل العيلة إمك"، لا زلتُ أشعرُ بدفء حضنها حتى اليوم، تمنيتُ أن أبقى في حضنها، "يرضى عليكي يا امي"، كلمات حنونة، افتقدها من بعدها، "ما تزعلي يا امي على موتي"، لكن غصبًا عني أزعل وابكي فراقها حتى اليوم... (بكتْ وردة بكراوي)، وتابعت: "لا استطيع أن أنسى كلماتها كنت اقول لها، استعجل خروجي لأخدمك، لقد فقدتُ والدي في السجن ولا أريد ان افقدكِ، فتقول لي الله كريم، لكن الله رحمها... كنتُ أتمنى ان اعوضها عن الألم، لأنها تعبت، وشعرتُ أنني سبب تعبها وحزنها وبكائها، ففي كل زيارةٍ تأتي باكية وتتركني باكية... أشتاقُ اليها، إلى امي".

وتضيف: "حين اعتقلوني كانت والدتي في الاردن، وفي طريق العودة اخبروها، فانهارت ودخلت المستشفى، كنتُ أحاول ان اصبرها، فتصبرني هي".

وتتابع بكراوي: "كانت تقول لي والدتي، اشتقتُ الى فنجان القهوة معًا، الى مشاويرنا سويًا، فقلتُ لها سأعوضك، لكننها لم تنتظرني". "كانت هناك أسيرة من نابلس تشبه امي الى حدٍ بعيد، كانت بمثابة امي، حنون، خففت عني".

بكراوي: امي جعلتني احب الأرض أكثر!

وتقول بكرواي: "امي كانت وطنية جدًا، تبكي لمشاهد المذابح، وتقول بالحرف الواحد، أتمنى لو اني احمل سلاحًا واشارك ضد الاحتلال، كانت تدفعني للمشاركة في مسيرات يوم الأرض الخالد، أشعر اليوم انّ امي معي، سعيدة بتحرري، تشاركني فرحتي بالثورات العربية، وعلمتني ألا أندم على ما فعلته، لا ألوم نفسي أنني سُجنت، ودفعتُ الثمن، وسأبقى أدفع ثمنًا من أجلِ هذه الأرض. لكنني تمنيتُ ان اجدها وأبي بانتظاري لحظة خروجي من السجن".

وتضيف: "لقد خرجتُ من السجن وأنا اكثر حبًا لهذا الوطن ولرائحة الأرض التي تشعرني بوجود امي معي، وأنا فخورة بأنني كنتُ سجينة، وكأنني اخرجُ من جامعة، دخلتُ 24 عامًا، وخرجتُ بعد 8 سنوات، وكأنني أحملُ شهادة جامعية، صارت ثقتي بنفسي اكبر وزادت قوة شخصيتي، وصبري وتحملي المصاعب". "لقد عشتُ تجربة سجن قاسية، شهر ونصف تحقيق مكثف، واربعة اشهر لوحدي، اكلم نفسي بصوتٍ عالٍ، كدتُ اجن، لكنّ حبي لهذا الوطن، ومعنى التضحية دفعاني ان اتصبر واتحمل، لأخرج صامدة قوية".

وتقول بكراوي: "لقد هان عليّ السجن، عندما رأيتُ أسيرات أمهات محكومات مؤبد، بكيتُ لأجلهن، وتمنيتُ لهن الحرية، وأن يعدن إلى عائلاتهن معززات مكرمات".

عن امنيتها تقول بكراوي: "أتمنى ان تتحد الأمة العربية تحت راية واحدة، عربٌ شرفاء، فليسَ لهذا الشعب الا ارضه ليحافظ عليها، أما على الصعيد الشخصي، فقد فقدتُ أعز ما لدي امي لكنني لن اسمح لأحد ان يبعدني عن هذه الأرض، فالأرض غالية وتهون في سبيلها الروح".

زوجة الشهيد رجا أبو ريا: الأرض هي العِرض!

عن فراق زوجها تتحدث صبحية ابو ريا: "لا زلتُ أذكر يوم استشهاده، الثلاثين من آذار 1976، يومها كانت سخنين "قايمة قاعدة"، الجيش يعيثُ في البلد فسادًا، يمنع الرجال من الخروج من البيوت، الدبابات تطوّق المنطقة، قالوا لزوجي صباح ذلك اليوم، ادخل الى البيت، قال "طيب"، بقرف، دخل البيت. تركنني اطعم البنات الاربع وخرج، نادى عليه الجيران، عد يا رجا سيقتلون فقال "الموت ولا المذلة".

وتتابع صبحية: "تركني انا وبناتي الاربع أكبرهُنّ أربعُ سنوات وأصغرهن ثلاثة اشهر، كان يومها في الـسابعة والعشرين من عمره، وانا ابنة 23، اليوم وبعد هذه السنين، كأنه لم يغب عني، كأنه اليوم استشهد" بكت بمرارة ومسحت دموعها وتابعت: "استشهد عشان هاي الارض"، "ترك لنا امانة في اعناق الفلسطينيين جميعًا، ترك الأرض ورحل".

وتقول : "لم يكن الأمر سهلاً علي، كنتُ صغيرة، لكن ما يعزيني انه استشهد بعزة وكرامة، وهذا الامر يتمناه كلُ مَن يحب هذه الأرض، التي تهون فدائها الروح". "تدبرت امري، وزوجتُ بناتي، وأنا سعيدة لأنني وصلتُ الى هذه المرحلة، لكنني أخشى على هذه الأرض، من الخيانة، من ضياع دماء الشهداء هدرًا".

وتقول بحرقة: "عندما انظر الى البلد، وأرى سخنين تضيق وتضيق، وتؤكل أراضيها ابكي، واتحسر على هذا الشباب الضائع، نعم هناك وطنيون لكن هذا لا يكفي، وآن للظلم ان ينتهي". "سلبوا معظم الأراضي، ماذا بقي لنا؟! يخرجون النساء من بيوتهن في البلدات العربية، كنتُ في القدس وشاهدت نساءً في العراء، والمستوطن يسكن بيوتهن، يؤلمني ما يجري، لكنني اؤمن ان الظلم لن يدوم".

وتتابع صبحية: "عندما اشاهد المسنين يحملون مفاتيح بيوتهم بانتظار عودتهم، يعزّ علي التخلي عن الارض وبيعها، كيف يهون للعربي ارضه، كيف يضيّعون تعب السنين الماضية، وتهون عليهم ارواح الشهداء لا لشيء، الا من اجل حفنة مال، لن تغنيهم، سيحاسبنا التاريخ على تفريطنا بأرضِنا، بعرضِنا".

"يحز في نفسي ان معسكرات الجيش تقارب أراضينا، التي ضحى زوجي ومثله كثيرون من شهداء يوم الارض في سبيل الحفاظ عليها".

تقول صبحية: "لا يمكن ان انسى رجا، حين اعلموني انه استشهد، لكنني سعدتُ باستشهاده، لأنه رفع رأسي ورأس بناته، يكفي ان يقلن أننا بنات الشهيد رجا ابو ريا، انه ارثٌ سنحافظ عليه، وسنعلم ابناء بناتي الحفاظ عليه، والحفاظ على هذه الارض، صبرتُ على فراقه، لأنّ الارض غالية، ولا ثمن لها، واوصيتُ بناتي بالحفظ على الارض من اجل ذكرى والدهن، وفي ذكرى يوم الارض نزور ضريحه، حاملين اكاليل الزهور، نقرأ الفاتحة عليه، ويرافقنا ازواج بناتي وابنائهن، ثم ننضم الى مسيرة يوم الارض الخالد". "انا اقدّس هذا اليوم وعلى شعبنا ان يقدسه وان تختفي مظاهر الأحزاب والطائفية، لتبقى الارض هي الأهم، وهي التي من اجله تهون الروح، وحين ارى امهات الشهداء تهون علي مصيبتي، واترحم على زوجي الحبيب رجا، بانتظار تحرير هذا الوطن".

وختمت صبحية: "يجب ان نصبر حتى يمل الصبر منا، وتعود لنا الأرض الغالية".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]