بينها وبين بحرِ عكا علاقةٌ قويةٌ، إنها تشبهُ هذا البحرِ في جماله، وعمقه، وباحتضانه لأبنائه، وبجذوره التي تمتدُ عميقًا...
بينها وبينَ البحرِ مشتركٌ هذا الحُب الذي يتسعُ لجميع البشر، أينما كانوا، ومتى حضروا... وحتى عندما غابوا!!!
"جميلة"... غابتْ لكنّها كبحرِ عكا، تحملُ عبقَ التاريخِ، وباقٍ سحرها ليأسرَ الآخرين...
وإنْ كانت "المربية جميلة" في عيونِ أبناءِ عكا... هادئةٌ وساحرةُ الجمال، ففي عيونِ شريكِ حياتها، ذاك الفارسُ الذي عشقها... هي قطعة زمردٍ نادرة وهي حوريةٌ التقاها ذاتَ ليلة، وحين رحلتْ، سرقت مَن القلبِ نبضهُ وحنينهُ ثم غابتْ إلى المجهول.
وإن كان الحديثُ عن الماضي بكلِ تفاصيلهِ، أمرٌ يحتاجُ مَن المتحدث إلى نفسٍ طويل، وإلى وقفاتٍ ومراجعاتٍ في دفاترِ الماضي، إلا أنّ الفارس، الذي تركته حبيبتهُ في ليلةٍ باردة، الزوج المُحِب زهير بهلول، الصحافي المعروف واللامع، يتحدث بتلقائيةٍ وانسيابية، حتى لتخالهُ يتحدثُ إلى نفسه، أو إلى البحر، فتارة يبتسم لمعشوقته "جميلة"، وتارة أخرى، يدمع أمام الذكريات، ومراتٍ طوالٍ تأخذه التفاصيلُ إلى أماكن بعيدة...
عن قصةِ حبٍ أبدية... تحدثَ الزوجُ الذي لا يزال يلملم جراحَ الغياب القسري عن حبيبته، زوجته الراحلة، المربية الفاضلة جميلة "ام عادل"، التي توفيت في السادس من تشرين الثاني الماضي، بعد صراعٍ مع المرض، تاركةً ورائها ثلاثة أبناء هم: عادل، أصفهان وشيراز...

الموت كبيرٌ والجراحُ عميقةٌ...
أبو عادل، الإعلامي زهير بهلول: "يقولون إنّ الموت يبدأُ كبيرًا ثم سرعان ما يتقلص حتى يصبح صغيرًا... لكن كلما مرّ يومٌ آخر أزدادٌ حُزنًا.. تزدادُ الذكريات، تتعدد الأسبابُ لاتساعِ الجرحِ أكثر... الفقدانُ كبيرٌ، الجرحٌ عميقٌ، خاصةً عندما نفقد الإنسان المحوري في حياتنا.
ولا أعتقد أنّني سأنعم بالراحة النفسية والطمأنينة والثقة في ظل غيابها، مَن سيكون سندي بعدها؟!! لن أجد... الأيامُ تتغير بعد مماتها، في قلبي حطامٌ من الذكريات"...

تفاصيل حياتنا... تعبر أمامي كشريط الذكريات
"أسترجعُ الذكريات، كشريطٍ كامل الوضوح، الغيابُ ملحوظٌ.. خاصة أنني كنتُ أشكو باستمرار قبل الرحيل من قلة الوقت واحتياجٍي لساعاتٍ إضافية، لأُكمل مَهماتي الملقاة على كاهلي، أما اليوم، فرغم أنني أزاول أعمال كما كنتُ سابقًا، لكنني أشكو أن الوقت يجترحُ الأحزان... فراغٌ كبير يملأ حياتي، بعد غيابِ مَن كانت محور ومركز وأساس حياتي.
الآن بدأتُ أذوّت الحقيقة كاملةً إنها هي "بشخصيتها وأدائها، وحكمتها ودرايتها وإدارتها"... هي الإنسانة التي كانت تشغل بالي وعقلي أكثر من أي شخصٍ آخر في الدُنيا... كانت حياتي معها منسابة، غزيرة، مليئة بالتفاصيل الحيوية، أدارت دِفة حياتي بذكاءٍ ولباقة".

جميلة... ومرهفة الإحساس
"كانَ تأثيرُها عليْ كالأدرنالين في مجرى الجسد، هي الطاقةُ التي تنسابُ في الأعماق، حتى أنني كنتُ مستعدًا –ودون مبالغة– أن أحقق لها أية رغبةٍ تريدها، حتى لو كان ذلك في أعماقِ البحر، لأنها كانت إنسانة مرهفةُ الإحساس، وذاتَ سحرٍ لا يُقاوَم"...

جميلة... قصة الحب والكفاح!
"تزوجنا بعد قصة حبٍ، أنهت تعليمها الثانوي ثم ارتبطنا، وأنا الذي أكبرها بثمانية أعوام ونيّف، جبتُ البلاد طولاً وعرضًا، كنتُ معلمًا، ثم عملتُ مذيعًا تلفزيونيًا وصحافيًا، فكانتَ ظروف عملي تفرض علي التنقُل، وفترة طويلة من حياتي كانت في القدس، ورغم الشكوى من عملي المبالغ فيه، إلا أنها لم تترك نفسها للانتظارِ الطويل والملل في زوايا البيت.
تعلمتْ، وحصلت على الألقاب، وصارت مدرّسة للتعليم الخاص، وكانت البداية في قرية صغيرة بالقرب من أبو غوش هي "عين رافا"، بعدها انتقلت الى مدرسة كان اسمها "البكرية" في سوق القدس الشرقية، وكانت رغم التعب، والتنقل بالمواصلات العامة سعيدة بعملها وبنجاحها، وفَرِحةٌ أيضًا مِن أجلِ تقدمي المهني".

"وما نيل المطالب بالتمني"
"عدنا إلى الشمال، وفي السنتين الأولتين تنقلت جميلة بين كابول وطمرة، حتى عُينت مربية في مدرسة الأمل الابتدائية، وهناك كانَت مملكتها التي سهرت على تطويرها ورعاية أبنائها الطلبة... متميزةٌ بلجوئها إلى أساليب تعليمية مستحدثة، وفي كلٍ مرةٍ كانت تصّر أن يرقى الطلاب بالمدرسة إلى مستوىً أعلى، الأمر الذي جعل الأهل يتذمرون أحيانًا، لكنهم سرعان ما يفهمون أنّ تشديدها في المطالب كفيلٌ بتحقيق الأماني والنجاح".
"كانت جميلة قارئةٌ ومتابعةٌ لاهتمامات الطلاب، وكانت تسعى لتحقيق القول "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"، ويأتي حرصها الشديد هذا على ضرورة الدراسة المكثفة في محاولةٍ مدروسةٍ من السيدة "ام عادل"، لمساعدةِ الأطفال بالتعلم وزرع بذور المثابرة لنقلهم من الظروف القاسية بما فيها من فقرٍ وما يتربص بهم من انهيار، إلى التعليم والتميّز، وهذا ما يعرفهُ طلابها جيدًا، خاصةً أنها كانت مُحبّة، ومِعطاءة وحنونة".

تلاميذها... بكوها بحسرة!
"الطلاب الذين عرفوها عن قرب وعائلاتهم بكوا حسرةً على الغياب، يذكرون تمامًا كيفَ كانت تلاطفهم، تشدّد في تنفيذ الواجبات المطلوبة منهم، لكنها تشاركهم تفاصيل حياتهم وأسرارهم، وكانوا يتدافعون لحملِ حقيبتها، ليسيروا معها جنبًا إلى جنب، ليدخلوا بيتها، وكانت قطعةُ الحلوى من يدها لذيذةُ الطعم... أحبوها... وبكوها كثيرًا بعد رحيلها!"

حين يغيبُ الجميع أكونُ وحدي!
"أقرُ وأعترف أنّ الناس أغدقونا بالمحبة، لكنّ هذا العزاء يعزز الشعور أنّ الفقدان كبيرٌ... لأنها لم تكن هامشية، كانت متميزة، لذا حين أنفرد بنفسي أشعر بعمق الخسارة وفداحتها.. لم تكن ناشطة خارج البيت، لكنها كانت الدفءَ والوقار والحيوية أينما حلت، في البيت بين أسرتها وطلابها وسائر من عرفوها مِن أبناء مجتمعها، نعم كلنا يشعر بهول الخسارة".

الحنين إلى الماضي!
"كانت نوستالجية، لها علاقة قوية بالماضي، حنينٌ متدفقٌ يأخذها إلى ما قبل، أحبت ما كان ولم تحب ما هو الآن، كانت تفتقد الكثير من القيم، وتشكو انحراف المجتمع واتجاهه إلى السطحية، لأنها مرتبطة بوجدانياتها وروحانياتها مع جداتها ومع والدها الذي غادر الحياة مبكرًا هو أيضًا بنفس سنها تقريبًا (52 عامًا)...

"بينها وبين الماضي كان تواصلٌ منساب، وكأنها ابنة 100 عامٍ، بِما تحمله من حنينٍ للماضي، وما تراهُ وما تذكره وما تعيه من قيمٍ ومحبةٍ وصدق...كانت تخطط للمستقبل بناءً على الماضي، وكأنها تشتم نكهة الماضي، عبق التاريخ، لكنها ظلّت تعيشُ بين الحاضر والمستقبل... كانت أفكارها مدروسة والمشاريع مكثفة في حياتنا... وهي كالحياة متدفقة ومثمرة، شكلها ومظهرها الكامل الأناقة لا يوحي بالصلة العميقة مع الماضي".
"جميلةٌ وأنيقة، ذكية الرائحة، من أجمل دور التجميل والعطور في العالم، هي كذلك... متكاملةٌ ورائعةٌ طوال حياتها".

الأم الصديقة!
"نجحت جميلة في الجمع بين الأمومة والصداقة، لبت احتياجات الأبناء، وكانت لهم الحضن الدافئ... درست التربية وعلم النفس، فأحسنت تربيتهم، وكانت أمًا حنونة، منشغلة عنهم بهم!"
"أما معي، فكانت كالنسمةِ في صيفٍ حار، تسهر على راحتي، وتحمل عبء ما أتكاسل عن تنفيذه من مهامٍ في البيت وللأولاد".

"القيادية!"
"لا أحب المقولة "أنّ وراء كل رجل عظيم امرأة"، فالمرأة الحكيمة في هذا النموذج هي القيادية، والرجل هو المكمِّل، نعم أنا صاحب الدخل الأساسي ماديًا، ولكن الحكمة وبُعد النظر، النظام، والاستشعار، كل هذه التعابير هي رفيقة دربي، الراحلة... كانت تملك إحساسًا يوصلها إلى داخلي، تعرف إن كنتُ أبتسم وفي القلبِ مشاعرُ متناقضة... وكانت سديدةٌ في نصائحها ومشورتها... مع ذلك كان بيننا في بعض الأحيان، نقاشاتٌ حادة، لها شخصيتها ورأيها ولي رأيي الخاص، نختلف في وجهات النظر، وقد نتعب من النقاش، لكننا نظلُ نحُب هذا المناخ الحقيقي للعائلة."
"وفي غمرة سعادتي بالمعجبين بي وبإدائي كانت تفرمل حماسي وتعيدني إلى أرض الواقع، كانَ دورها في خلق التوازنات، جعلتني لا أتحمس بصورة مبالغة، أو أصاب بالإحباط غير المُبرَر، وهو دورٌ لا شكّ أنه مهم جدًا في حياتي وفي استقرار الأسرة".

كتبتَ قصائد حُبٍ؟!
"في بداية حياتي كتبتُ لحبيبتي قصائد عشقٍ... ونُشرت في صحف عربية، مثل الأنباء، الآن لم أنجح أن أخرج من الخيال، هأنذا أترك الخيال صافٍ، يأخذني معنا الى الأماكن التي كُنا فيها معًا، أعيشُ تفاصيل 33 عامًا، يكفيني الخيال وهو ثريٌ ومثرٍ... -لكنْ- ربما ستتفجر مشاعري لدرجة تدفعني إلى أن أخُطّ كلماتي على أوراق حياتي المبعثرة بعدها... طُلب مني في أيام العزاء أن أكتب ما أشعر بِه، لصحيفةٍ عبرية، فوجدت في فتراتٍ متباعدة بين آلاف المعزين بعض الوقت لأكتب بدمع العين كلمات تفتقدها مثلي... ، ربما سيأتي ذلك اليوم الذي أكتبُ قصائد شوقٍ للتي سكنت ولا تزالُ، في قلبي".

بكيتَ؟!
"كثيرًا..."

اكتشاف المرض
"اكتُشِف المرض قبل أقل من خمس سنوات، وحينها استهجنا جميعًا، كيف يكون ذلك وهي الإنسانة التي تحرص على نظام غذائي صحي طوال حياتها، كالقنبلةِ القيت وسط البيت.. لكن بقوةِ شخصيتها وبسبب عشقها الكبير للحياة قررنا أن نقهر المرض اللعين. وبالحرف الواحد قالت "شيءٌ لن يثنيني عن الاستمرار بالحياة"، وعن المرض قالت "كل شيءٍ بيد الباري عزّ وجل".
"كنتُ أرافقها الى مراكز العلاج، ونعود إلى البيت، إلى وتيرة حياتنا الطبيعية، واستمرت هي بالتدريس، لكنني بعد سنتين ونصف أقنعتها أن تترك العمل، خاصةً أنها كانت تعود أحيانًا منهكة، ومع ذلك تكابر لتظهَر بكامل قوتها"....
"ما تذمرت يومًا، ولم تعطنا أيُ شعورٍ بأنها لم تعد قادرة، عشنا حياة، ثمانون بالمئة منها طبيعية، وهي قدرةٌ فائقة لمن عاشت المرض، أن تخفيها عمَن حولها".
"آمنت ام عادل، بكل جوارحها أنها ستنتصر على المرض، لكنها قبل شهرين من الرحيل طلبت أن أفتش لها عن بيتٍ أرضي، لتتخلص من صعود السلالم... وظلت جميلة حتى اللحظات الأخيرة تسجّل ثلاث قناعات لا يمكن تغافلها، المرض لا، الخطر غير وارد، واليأس ليس في معجمها...
وفي أواخر تشرين أول العام الماضي، تعبت زوجتي، وطلبت مني إحضار الإسعاف الأولي، وأمضت عشرة أيام في المستشفى، هي أولُ مرة وآخر مرةٍ تقضيها في المستشفى قبل رحيلها".

اللحظات الأخيرة
"جميلة غنت لابنها عادل، أغاني الفرح والأعراس يومين قبل رحيلها، كُنا حولها جميعًا، فغنت بصوتها المتفائل، ونحنُ رددنا ورائها كلماتٍ نعرفُ أنها تخرجُ صعبة من أعماقها... كانت قاسية تلك اللحظات، لكنها حاربت بكل حبها للحياة كي تطرد الموت، لم تعطنا الشعور أنها راحلة... وأننا سنبكيها، وسنشتاقُ لها..."
"كانت تحُب السفر، اختارت أجمل المدن العالم: باريس، روما، لندن، لكنها حين مرضت، لم ترغب أن تبتعد عن أجواء الوطن والبيت...".
"قلتُ لها... لستُ أدري لماذا أنتِ؟!! فكانت ترفض هذا الكلام... رحيلها قاسٍ جدًا... حطمت قلبي".

هل شاركتكَ الرياضة والسياسة؟!
"لم تكن تحب الرياضة، ولم استطع نقل الحُمى لها، رغم أنها كانت تتابع بعض النشاطات والألعاب الرياضية، مرغمة، خاصة أنّ هناك من يُنافسني في حب الرياضة، هو ابني عادل، وابنتي الصغرى شيراز، وحتى أصفهان كانَت لها صلة بالرياضة...
وفي السياسة كانت حذرة جدًا، مثلي وأكثر... ورغم العروض التي قُدمت لي لأترك الصحافة واتجه الى السياسة، الإ أنني لم استطع ولا كانت هي ستكون راضية".

وماذا كانت تحب هي؟!
"كانت تقرأ كثيرًا، كما تعاملت مع الأمومة كمهنة، اهتمت بالعائلة والبيت، بدقةٍ وبتفاصيل التفاصيل... وكانت ايضًا طاهية ماهرة، تحب الابتكارات الحديثة والمأكولات الآتية من الماضي، ككعك العيد، كانت تتقنه كالجدات... وفوق ذلك تطوّر نفسها بكل حديث، فهي سيدة الأذواق..."
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]