هذه الأيام المباركة، في عيد الفطر السعيد، تلبس عكا ثوب البهجة والفرح، تاركة ورائها هموماً جمعتها على مدارِ سنين طوال.
كان آخرُ همٍ حملهُ العكاويون، هو سوقها، سوق عكا الذي يحملُ تاريخًا لا يُنسى... وعلى أرضِ عكا، وسوقها، مرّ الكثيرُ من الغزاةِ كما مرّ الفاتحون أيضًا...
عكا اليوم، تحتفلُ بعيد الفطر السعيد، مكافأةً لها ولناسها على قدرتهم على تحمل عناء شهرٍ كامل من الصيام، رغم ما فيه من حرٍ وتعبٍ وعطشٍ لا يتحملهُ بشرُ... إلا مَن صمّم وصبر على هذا التعب، ليسعد بالعيد.
بالأمس، في شهرِ رمضان، وفي أيامِه الأخيرة، شكا التُجار من صعوبة الحياةِ وقسوتها في سوقِ عكا...
تغيّر البشر، والزوار، ولم يتغير السوق، ظلّ مكانه، تجاره، وأبناؤهم، يصارعون من أجل لقمةِ عيشٍ كريمة.
ففي زقاقِ السوق، حوانيتُ تجمعُ أنواعَ جمّة من البضائع، واللحوم والحلويات، لكنّ قلةُ هم مَن يطئون المكان.
في السوقِ أيضًا رائحةٌ تنعشُ القلب، تلتقي فيها الكنافةِ بالعوامة، باللحوم، بالأسماك، بالبهارات... لتصنعَ مشهدًا تاريخيًا يشبهُ سوق "باب الحارة"، الدمشقي، الذي يشهدُ على جمال الشرق وعبق التاريخ.
لكنّ تجارها، يتحسرون على الماضي... يقولون، قبل سنوات... كانت لعكا بهجتها، كان تجارها، وأهلها وأطفالها لا ينامون... اليوم جميعهم ينامون... وتستيقظُ الأحلام والآمال، في غدٍ أفضل....
رسمية المغربي: تجارتي خسارة
الحاجة ام علي المغربي، رسمية، انتظرتْ أيام العيد بفارغ الصبر، لتعوّض بعضًا من الخسائر التي تكبدها طوال العام، وفي شهر رمضان المبارك أيضًا.
وهي تقول: رغم حلاوة هذا الشهر الكريم، الاّ انّ التجارةُ فيه كانت خاسرة... اليوم نحاولُ أن نعوّض ما خسرناه... إنه أمل نتعلق بِه، نحنُ التجار، اصحاب هذه الحوانيت التي تُقابلُ بعضها البعض.
جيراني يعرفوني همي، وأنا كذلك... نبيعُ لنعيش، ونأملُ أن نربح، لنستمر في البقاء، والحفاظ على ما ملكناهُ من الآباء والأجداد.
أتعلمون لماذا نخسّر؟!! تقول ام علي: أهلُ المدينة هجروا السوق واتجهوا الى الضفة الغربية، والى القرى القريبة، التي انتعش اقتصادها وازدهرت تجارتها، أما عكا بسوقها التاريخي، فقد نامَ عشرُ سنواتٍ على الأقل.
وتضيف ام علي: لدي أحلامٌ كبيرة، آمل ان تتحقق، آمل ان تقوم البلدية بدعمنا، نحن التجار، بمساعدتنا، عن طريق الاعلانات، والتأكيد على انّ عكا مدينة جميلة، سياحية، وسوقها شاهدٌ على العصر.
وتتابع ام علي: نعم أخسر، الأمر واضحٌ، جليٌ للجميع، كم زبونٌ يدخلُ السوق خلال النهار؟!!! نعم هناك سياحٌ أجانب لكنهم ينظرون ولا يشترون... يكفيهم قبعة خفيفة، تقيهم حرّ هذا العام، ويرحلون دون وداع. أما نحنُ فندفع الضرائب والأرنونا ونصرف الكهرباء يوميًا... بانتظار هذا العيد السعيد.
وسام دبور: سوق عكا يبكي زواره
لم يكن كلامه يحتاج إلى تأكيد أكثر مما رأته العين، على عتبةِ دكانة وسام دبور وقفت طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، اشترت لعبتها، غابت، ثم عادت لتبدلها، ركضت الى بيتها، وعادت مرة ثانية لتبحث عن لونٍ آخر للعبتها... لم يعدُ في السوق سوى أهلُ الحي القريب.
ومن يدخلُ زقاق عكا، يأتي ليمشوِر في أرجاء المدينة... لم يأتِ قاصدًا حوانيتها...
عن همه وهم رفاقه تجار سوق عكا يقول وسام دبور: مَن يعتقد أننا نستفيد من تجارتنا، فهو مخطئ لا استفادة ابدًا، فالصرفُ اعلى من الدخل بكثير، خاصةً أننا ندفع الضرائب في وقتها، على أمل ان تأتي الفرج.
دبور، ابنُ هذه المدينة العريقة، يعرفُ كُلَ زاويةِ من زوايا هذا المكان، يعرف متى يُقبل الناس على الشراء ومتى يهجرون السوق، لكنه هذه السنة، لا يعرفُ شيئًا، لم تعدُ التفاصيل كما كانت في السابق، صارَ الهجرُ عنوانُ هذا السوق.
دبور يعزو ما حلّ بالسوق في شهر رمضان الى الوضع الاقتصادي الصعب، وحلول السنة الدراسية الجديدة، الأمر الذي يضع العائلات في عجز، هذا من جهة، لكن من الجهة الأخرى، فإنّ تطور القرى المجاورة لعكا، أفسد حالُ عكا، ففي حين تنام المدينة باكرًا، تظل القرى المجاورة، متيقظة.
تبدو تعليقات وسام دبور، كصرخةٍ لا تجد صدىً،" فلا حالُ يتغير، اللهم هذه الايام مع زحمة العيد التي تُخرج ابناء المدينة من سجنهم الذي اختاروه، ليفرحوا بضعة أيام، قبل عودتهم مرة اخرى الى أماكنهم المعهودة".
دبور، ليس الوحيد الذي يرى انّ البلدية مقصرة، ولا تدعم التجار العرب، بل إنّ جميع التجار في السوق يحلمون نفس اللوم والعتب والاتهام بالتقصير، فالمقترحات التي تصل الى يد لانكري، لا ينفذ منها شيئًا، وفي جعبة التجار طلباتٌ بسيطة من بينها، "موقف للسيارات، تخفيف الضرائب، المساهمة في الإعلان عن السوق التاريخي في عكا القديمة..".
ويلفت نظري دبور الى ما يجري من وراء الكواليس، من سمسرة لعربٍ ويهود، حتى تمكنت طائفة كبيرة من اليهود من شراء البيوت العربية، خاصةً انّ العروض مغرية، خُذ ضعف سعر بيتك، وافعل بِهِ ما تشاء، إنها اغراءات المال، عندما تلمسه أصابعك... فتنتعش روحك قليلاً، ثم تخسر عكا القديمة سكانها العرب.
لكن، " بهونها الله"، كلمة تُقال قبل وبعد وأثناء الحديث عن معاناة تجار عكا.
قاهر غوارنة: يريدون أن يقهرونا، ويرحلوننا من عكا القديمة
وأمام محل الحلويات الذي يملكه قاهر غوارنة، أطباقٌ من الحلو لا تُعدُ ولا تُحصى... جاءَ العيدُ ليتذوق رواد السوق على قبلتهم أصنافٌ من الحلويات، حلوة المذاق.
يقول قاهر: "أمضينا شهر رمضان الكريم، ونحنُ نجررُ حالنا، كيفما كانت، فالبيعُ قليل، والناسُ لا تملك أموالاً تكفي ليكافؤوا أنفسهم بطبق حلوى، أو بحلةٍ جديدة، وما يدخلُ الجيب يجب أن يُحفظ، فلا يعلم الغيب الا الباري...
وحالُ قاهر، كحالِ سواه من العكاويين، أصحابُ المحال التجارية، تضرروا لعدة أسباب، من بينها الوضع الاقتصادي الذي يسوء باستمرار، و"الزعرنات" التي يرتكبها بعضُ العكاويين من أصحاب النفوس الضعيفة، أساءت الى سمعة العرب في المدينة، وأصحاب الصنعة هم قلة، والبطالة متفشية، يعيشُ رجالُ عكا على التأمين الوطني، ويمضون وقتهم في التنقل بلا هدفٍ ولا وجهةٍ ولا معنى.
والفلسطينيون في القرى والمدن المجاورة، يبحثون عن الأسعار الأرخص... فلا يجدوها في سوقنا.
واستهجن غوارنة بناء فندقٍ قبالة سوق عكا القديم، فشكلُ السوقِ ومحاله التجارية، تحملُ ذكريات عمرها آلالاف السنين، لكنّ النزل تمّ بناؤه ولا زال العمل فيه مستمرًا، لا يلاءم شكلاً ومضموناً هذه المنطقة...
وهو يعترف انّ إقامة هذه الغرف الفندقية، هدفها أولاً وآخرًا "خراب بيوت العرب في عكا"، والبلدية برئيسها والمسؤولين فيها على اختلاف هويتهم، لا يفعلون شيئًا، حتى يسمعوا بـ"خراب مالطا.. عكا"....
يقول قاهر غوارنة: الهدف واضح ومعروف كقرص الشمس، قهرنا وترحيلها، وافراغ عكا القديمة، وسلخ ما تبقى من بيوتٍ وأملاكٍ للعرب الأصليين في المكان.
[email protected]
أضف تعليق