بدأ الطبيب رزق عدنان نخاش، أبن مدينة الناصرة، مشواره مع الموسيقى وآلة البُزق، بشكل فعلي، حين بدأ حياته الجامعية قبل نحو عشرة أعوامٍ، في دراسة الطب، في الجامعة العبرية ( هداسا عين كارم).

رزق الطبيب والملحن...

يعمل رزق- وهو متزوج لمرام وأب لصبا، في الوقت الحالي في العيادات الطبية، ليكتسب وقتًا حسب قوله في تعلم الموسيقى بشكل ذاتي، منذ بداية مشواره معها، وأكد في قوله " الموسيقى هي الهواية وحلم الطفولة، الذي ما انفك يراودني طوال الوقت". وأشار أنه سوف يعود في العام المقبل إلى مستشفى هداسا لمزاولة التخصص في طب الأطفال.

رُب صُدفة خير، جمعته مع حلم الطفولة...وابتدا المشوار مع العزف

كان لقاءه الأول مع آلة البُزق بالصُدفة، مع بداية مشواره الأكاديمي في القدس، في أحد المحالّ التجارية في شارع باب السلسلة، هذه الآلة التي كان يحلم بها بصمتٍ حسب قوله لمدة سنين، وتحقق الحلم ومن هُنا" ابتدا المشوار"..

رزق في حديثه الخاص إلى موقع بكرا قال: " لم أدرك وقتها أن وائل - صاحب المتجر المقدسيّ الغارق في عتقه كأسوار المدينة، وائل الذي اشتريت منه الة البزق الأولى - سيصبح فيما بعد الشخص الأكثر تفاعلاً موسيقيًا من حيث اقتنائي منه نحو (11) الة موسيقية مختلفة رافقتني طوال سنين التعليم للطب في الجامعة"!

وتابع: " حققتُ حلمي، أعترف أنّ الحلم كان بسيطًا ألا وهو مواكبة مشهدٍ أو حالة ذهنية أو شعورية بجملة موسيقية، آنذاك لم أدرك الالية التي يتوجب علي صقلها لأصل هذا الحلم، فقد كان ثقلاً على كاهلي أن أخطط لهذا الحلم في مجتمع لا يزال يرى في الموسيقيين "هُواة" يصطفّون على الهامش، لا يسعون لتطوير ذاتهم ومجتمعهم ماديًا وانسانيـًا.

جدي وآلة الشبابة ..

وتابع رزق: " احتكاكي الأول مع الموسيقى كان عبر جدّي.. أذكر ذلك مثل البارحة، حين كان يمسك بشبابته البسيطة ذات الفتحات الخمس ويعزف عليها ما جادت به أغاني التراث الفلسطيني من ميجنا ودلعونة ودبكة وغيره"..

وقال أنه عندما كان في السابعة من عمره ألح على جده أن يُعلمه العزف، لكنه قابله بالتحذير من الانسياق وراء الناي، رغم شغفه بها، فقد كان جده يخشى عليه أن يلتهي عن دراسته، ويبتعد عن التركيز بها. مؤكدًا بحديثه؛" الشبابة كانت هوايتي الأولى، ورفيقتي في الرحلات والجولات".

تعلُم الموسيقى بشكل ذاتي...

ونوه في حديثه أن تعلّمه على البزق ، كما سائر الآلات الاخرى التي اشتراها لاحقًا، كان ذاتيًا، وذلك لافتقار المدرّسين على هذه الالة آنذاك، حين بحث في أرجاء الجامعة سائلاً عن معلّم للبزق، دون جدوى، إضافةً لضيق الوقت والمال لذلك.

وتابع: "أذكر كذلك كيف كنتُ أعلم أصدقائي في سكن الطلاب عن ساعات العزف على البزق كي يتسنى لهم "الهرب" من صوته! فالنشاز على هذه الالة لا يُحتمل!

لكن رويدًا رويدًا بدأ الاصدقاء في التجمع حين نقلتُ ما عرفتُ عزفه على الشبابة من أهازيج فلسطينية على آلة البزق، وقتها لم أدرك ما معنى كلمة مقام موسيقي، فكل النوتات عندي هي ستُ على مقام البيات - ما ورثته من جدي على الة الشبابة! إلى أن كان لقائي ببعض الاصدقاء من كلية الموسيقى مثل بلال ارشيد وموفق عبد الفتاح اللذين علّموني "على السمع" المقامات من خلال أغانٍ.. "بدّي شوفك كل يوم" على مقام الكُرد، "طلعت يا محلا نورها" على مقام عجَم، "الحلوة دي" على مقام حجاز، وهكذا تعلمّتُ المقامات.

عَازِف عَ السَمَع..

لم تَكُن النوتة الموسيقية أبدًا ضمن أي مُخطط موسيقي يسعى اليه رزق مستقبلاً! فقد كان عزفه طوال الوقت يعتمد على السمع، وقال أنه في كل مرة أراد أن يتعلم النوتة، كان "يتلعثم" و"تتخربطَتْ" موازينُ عزفه، كونه لم يكُن صبورًا كفاية لمواكبة تعلّمه قراءة النوتة وعزفها، في حين كان بستطيع فعل ذلك من دون النوتة!

إلى أن حصل معه حادثة أجبرته على تعلم النوتة، ومنذ ذلك الحين قرر أن يدوّن مقطوعة موسيقية بعنوان "سماعي كُرد" وهو قالب موسيقي شرقي نشأ في تركيا وانتشر في العالم العربي. وتذكر قائلاً: " حين جلست مع صديقين أحدهما عازف قانون وايقاع والاخر عازف كمان معتقدًا أنهما سوف يعزفان معي "ع السمع"! آنذاك أدركتُ أنه حين أسعى لتقديم مادة موسيقية لمجموعة عازفين محترفين، فإنه من الواجب أن أكتب هذه المادة باللغة التي يفهمها الموسيقيون وبالشكل الذي يرتقي للتعامل معهم! إدراك بسيط جدًا لكل موسيقي، لكنه بالنسبة لي كان بمثابة اكتشاف كبير وخيبة أمل تجرّني قسرًا الى تعلم النوتة!

لكن المفاجأة الكبرى التي استنتجتها من خلال تعلمي النوتة: تعلم النوتة لمن يعزف بشكل سماعي لا يستغرق سوى بضع ساعات "!
وتابع "هذه المفاجأة اكتشفتها لوحدي ليس لأني عبقري، بل هو نتاج العزف المتراكم وتطوير للأذن الموسيقية على مر سنين، هذه بشرى أستطيع زفّها لكل عازف "عَ السمع" يريد أن ينتقل للعزف المدوّن.

بُــكرا:حدثنا عن أول قطعة موسيقية قمت بتأليفها، دائمًا الإنتاج الأول أو التجربة الأولى لها مذاقها الخاص ردّ فعل المستمعين؟ هل كان لديك تردد في إسماعها لأشخاص مهنيين؟

رزق: " قصتي مع التلحين بدأت حين خضتُ غمار الدروس الذاتية التي أقحمتُ نفسي بها لأتعلم القوالب الموسيقية الكلاسيكية الشرقية لتكون بمثابة أساس نحو أي انطلاقة أسعى لها مستقبلاً في مجال التلحين".

وتابع: " نعم، لقد كانت "الوظائف البيتية" التي وضعتها لنفسي في التلحين تحديًا قاسيـًا، فقد كانت عبارة عن محاولات تلحينية أولية اتخذت شكل قوالب شرقية معقدة كالسماعيات والبشارف واللونغات".

وأشار أن "المحاولة "الجدّية" الأولى كانت سماعي على مقام بيات، وما كانت للمحاولة أن ترى النور لولا دعم وتشجيع أصدقاء من الحقل الموسيقي كعازف العود الفلسطيني نزار روحانا الذي أشرفَ بملاحظاته الداعمة لمحاولاتي الأولى، فأنا لا أخفي تخوّفي في البدء من نشر المقطوعة كوني أتعامل مع قالب موسيقي جدّي ومعقّد ذي متطلبات صارمة كالسماعي، لكن حين رأيت أن المحاولة لاقت استحسانَ بعض الموسيقيين الفلسطينيين الشباب أدركتُ أن المحاولة لم تكن مجرّد "وظيفة" أو "درسًا موسيقيـًا" عابرًا، الأمر الذي شجعني على بناء محاولات أخرى كسماعي آخر على مقام الكُرد وأخر على مقام الحجاز، وكذلك لونغا على مقام نكريز وأخرى على مقام زنجران أسميتها فيما بعد "أطفال من فلسطين" لإيقاعها الراقص وجملها التفاؤلية.

لكنّ الحقّ أقول، ليس هذا ما اخترته لنفسي في غمار مسيرة التلحين التي أقف عند أعتابها في هذه المرحلة، حلمي لا يزال هو منذ أن قررت خوض تجربة التلحين - بناء جملة موسيقية ترافق مشهدًا".

على هذا الأساس بدأتُ مسيرة التلحين على شكل مقطوعات قصيرة تحوي جملاً بسيطة بتوزيع يلائم حالة ذهنية أو شعورية أمرّ بها من خلال احتكاك حواسيّ مع لوحة أو صورة أو مشهد ما… أحيانـًا أحتاج لعشرين آلة موسيقية تعزف بتناغم هارموني متصاعد كي أبني جملة موسيقية قصيرة جدًا لا تتعدّى الثواني، وأحيانـًا أبني عدة جمل موسيقية لتُعزف بشكل صولو على آلة واحدة..! ليست هناك قاعدة أحتكمُ إليها في هذا السياق، وهذا أساس الجمال كله في القصة!

وأكد رزق:" على هذا الأساس، اضطررتُ لاقتناء أفضل البرامج المحوسبة التي أستطيع من خلالها وبالاعتماد عليها توزيع بعض الجمل الموسيقية بشكل أوركسترالي كما في مقطوعة "أطفال من فلسطين" أو "تصعيد" أو "عودة" بالتعاون مع المصورة الفلسطينية سهر روحانا من خلال مشروع موسيقي تلقائي يجمع بين الصورة واللحن ضمن إطار "زوايا من فلسطين قبل أن تفقد الذاكرة" بعدسة المصورة سهر.

تعاون مع فنانين..

رزق: "من الناحية الأخرى، هذا لا يلغي أبدًا التعاون المثمر مع بعض العازفين المهرة الذين تعاملت معهم في عزف المقطوعات الكلاسيكية الشرقية كسماعي كُرد وبيات، فلكل مقام مقال.

في الواقع أنا لا أعدّ (من عدد) مقطوعاتي كوني أعدّها محاولات موسيقية أنشرها حاليـًا ضمن إطار محدّد للأصدقاء على صفحات الفيسبوك، وهذا اللقاء الصحفي الأول هو بوتقة خروجي موسيقيـًا من دائرة الأصدقاء المقربين الى حلقة أكبر".

الموسيقى ستبقى في إطار الهواية..

وأكد رزق في حديثه أن الموسيقى بالنسبة لديه، ستبقى في إطار هواية، لكنها هواية ترتبط بها حياته الاجتماعية والمهنية ، مؤكدًا " لا أتخيّل يومـًا أستطيع فحص مريض من دون أن أكون "معبّأ" موسيقيـًا - حتى وان اقتصر ذلك على عزف تلقائي على إحدى الآلات المستلقية بأريحية في غرفة الاستوديو البيتي المتواضع"!

بين الموسيقى والطب هُناك عازف هاوٍ

رزق: " جدلية الطب والموسيقى كانت عبئـًا علي في بداية الطريق، لكن اليوم أرى جمال هذا التكامل بين العالمين وأستمتع به لحظة تلو الأخرى.. وهنا أود التشديد بأني لستُ عازفـًا محترفـًا كما يظنّ البعض ممن يستمعون الى محاولاتي. أحترم رأي بعض الاصدقاء - خاصةً الموسيقيين منهم - إزاء عزفي على آلات كالبزق والناي، لكني أرى نفسي عازفـًا يعطي الآلة الموسيقية حقّها ويبرز هويتها (كالعزف على الة الدودوك الأرمنية أو الناي الإيرلندية أو القيثارة الإسبانية) حين أعزف عليها بعض الجمل الموسيقية، لكن يجب الوقوف أمام حقائق الطبيعة والجزم بأن الانسان بطبعه طاقة محدودة - أي بكلمات أخرى: كي تكون عازفـًا محترفـًا، يجب أن تقلص عدد الآلات الموسيقية لتتركّز بآلة واحدة أو اثنتين، وكذلك أن تقلّص عدد العوالم الموسيقية.. هذا الأمر غير متواجد عندي كوني أحب "القفز" بين عدّة عوالم موسيقية! فيمكن أن أستفيق يومـًا ما بعد فنجان القهوة مع جملة راست على آلة البزق وإيقاع مصمودي صغير، وبعد ساعتين انتقل الى توزيع جملة هارمونية لتتناغم مع عشر آلات تشيلو وتسعة دابل باص متناغمين مع جوقات من الفيولا والفيولين وبعض القرون الفرنسية تنثر فوقها بعض صيحات الترامبيت، ناهيك عن بعض النايات الكلاسيكية والأوبوا والكلارينيت والتوبا وطبول الفاجنر وما الى ذلك من الات أعشقها في حقل الأوركسترا الغربية…

أعمال مستقبلية..

ما زلتُ على عتبة التلحين. أقول هذا ليس تواضعـًا مني، لكنها حقيقة يجب الوقوف عندها. محاولاتي تعكس حالة "تذوّق" وتجربة أمرّ بها حين أسبر عوالم موسيقية معينة. هذا لا يعني أني أتخبط بشكل عشوائي، بل لانني أذهب بشكل مدروس وممنهج لخلق حالة تحدّي أبني من خلالها محاولة لأستند عليها مستقبلاً في رسم الحلم ومشاريع المستقبل.

لستُ بصدد تقديم عروض على مسرح، مع أنني أتوق دومـًا للعزف مع أصدقاء وعازفين في الاستوديو، وذلك كون طبيعة حياتي المهنية لا تسمع بذلك من ناحية الالتزام الوقتيّ بذلك.

حلمي يدور حول عالم الموسيقى التصويرية. فهذا مجال نفتقر له بشكل محسوس في الدراما والسينما الفلسطينية. كلّي آمل أن أنجح في هذا السياق، فهناك يقبع حلمي.

بالإضافة إلى مهنة الطب وهواية العزف، يُمارس رزق كتابة النثر والشعر، الذي كانت يتميز به، منذ أن كان تلميذًا في المدرسة، فهو خريجٌ لمدرسة تيراسانطة الناصرة، التي تميز به بدراسته، وفيما يتعلق باستمراريته في الكتابة أجاب: "لا زلتُ أكتب! فبئرُ الماء التي نضب ماؤها حين وصفتُها ذات مرة في قصيدة عن قرية "ديشوم" المهجّرة عام النكبة، ما زالت هي البئر ذاتها عالقةً في ذهني، لكن أحاول صياغة الجملة هذه المرة بشكل موسيقي، علّني أوصلُ الرسالة بشكل أقوى".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]