كانت ما زالت آثار حرب نكسة السبعة وستين بقاموسنا، والستة أيام بقاموسهم، والتي انهزم فيها العرب شرّ هزيمة تحطّ على وفي أذهان أهالينا، خصوصا وأن أهالينا كانوا من محبّي عبد الناصر والذي سُجّلت الهزيمة على اسمه وهو منها براء اللهم إلا بحكم موقعه. وهذه الآثار انتقلت إلينا، نحن الفتية في ذلك الزمن، دون أن نفهم الكثير ممّا كان يُقال كوننا لم نكن عندها فهمنا ما حصل لا بل أكثر من ذلك علمونا في المدارس أن دولتنا التي كنّا لتوّنا "احتفَّلونا" بعيد استقلالها انتصرت على الأعداء في ستة أيام و"احْتُفّلنا" بالانتصار.
كل ما عرفنا أنه أخرجونا إلى عطلة من المدرسة وفرحنا لذلك، ورغم أن بلدنا كانت ما زالت لا تعرف الكهرباء فقد نيّمونا "على العتمة" دون قناديل إذ كانت التعليمات أن يطفىء الناس كلَّ نور ليلا، والسيارات القليلة في البلد طُليت مصابيحها بالأسود إلا جزء مستطيلي منها، وكل ذلك اتقاء من غارات الطائرات، فخفنا لذلك.
لكن عن علاقة حرب السبعة وستين ومشمشتنا الشاميّة فهذه حكاية ما كانت لتحدث لولا تلك الروح الفكاهيّة المرّة السخريّة التي كانت عند أبي. كان أبي فلاحا يحبّ الأرض وحتّى بعد أن صادرت الحكومة أجودها وتدنى دخل البيت بشكل كبير، ظلّ متمسكا بما تبقى منها يغازلها بما أوتي وهي كانت تجبُر بخاطره فترد له كفاف البيت، مصرّا وجلا أن يطرأ طارىء يُحنِثه قسمه: أن لا يعمل أجيرا عند اليهود مهما صار، وكان خفيف روح تتمنى أن تراه يوما غاضبا ولو حبّا في الاستطلاع، فيواجه أصعب الظروف بطرفة فيُضحك كل من حوله ولا تعرف إن كان على حالهم.
كانت مشمشتنا الشاميّة زينة حاكورتنا والحارة، تغطي جزءا كبيرا من الحاكورة بفروعها الممتدة كيفما اتفق، لا تبخل علينا في كل موسم بحباتها خضراء أول الإثمار يسيل لها اللعاب وصفراء موشحّة باحمرار يبهر الانظار يثير الوحام عند الحوامل عند النضوج. وكأن مشمشتنا في تلك السنة تأثرت بالركود الاقتصادي الذي عانت منه البلاد وتأزم قبل الحرب، فبدت مع ربيع تلك السنة وبعد إخصاب زهراتها على غير عادتها، الاخضرار في أوراقها غير شكل واليناع في أفنانها غير شكل وثمارها التي بدأت تخرج من رحم زهرها غير شكل، وتلك منها التي بدأت تنضج سارقة من الشمس ألوانها غير شكل.
رغم أن مشمشتنا الشاميّة كانت بعْليّة تكفيها الطبيعة من أمطارها الوفيرة في بلدنا بحكم موقعها العالي، إلا أن أمّي قلقت أكثر من أبي على حال المشمشة، فحفرت حول جذعها جورة دائريّة صارت تقتسم معنا جرّة الماء التي كانت تحملها أميّ رأسها من العين كجزء من مهامها، إذ أن قريتنا كانت بعد لم تعرف كذلك شبكة المياه القطريّة، وحظنا أن كان ما زال عدد أهل بلدنا قليلا وما زالت العيون المتفرّقة في أحضان جبالها تزودنا بكفافنا.
طبعا إرواء المشمشة كلّف أمي لاحقا، جرّة إضافيّة تسحبها على رأسها من العين ففعلت ذلك عن طيب خاطر رغم الشقاء في نزول وصعود درب العين الجبليّة الوعريّة، فالمهم أن تعيش المشمشة، وقد كانت غالية علينا جميعا فساهمنا كلّنا كلّ في قسط ودور يتلاءم وجيله.
لم يقف أبي موقف المتفرّج وإن كان في البداية اعتمد على دور أميّ، ليس قبل أن يتفقد المشمشة بنظراته، أوراقها وفروعها والأهم جذعها مطمئنا أن لا يكون "أبو هارون" السبب، وأبو هارون هذا دودة تدخل جذوع اللوزيات والتفاحيّات فتهريء داخلها أو ما اصطلحنا أن نسمّيه لبها، أحيانا تدخلها فوق وجه الأرض فيسهل اكتشافها والقضاء عليها بملاحقتها بسلك معدني يُتوخى أن يقتلها، وبسدّ القُدح الذي تصنعه بخرقة مبلولة بالكاز أو البنزين لتخنقها الرائحة إن لم يطلها السلك فأحيانا "ملعونة الوالدين" تحرف لولبيّا فيعجز السلك المعدنيّ عن مهمّته.
لم يتسنى لي أن أسأل والدي أو لا أذكر إن كنت سألت ونسيت، لماذا أطلقوا عليها اسم "أبو هارون" ولا أعرف إن كان سيوفيني الإجابة ولكن اجتهادي أوصلني متأخرا إلى أنه ربّما لأنه يهريء لبّ الجذوع والفروع غذاء له مميتا الشجرة موتا بطيئا.
المعضلة إن دخلها اللعين تحت وجه الأرض فيصعب اكتشافه وفي هذه الحالة حظ الشجرة في العيش ضئيل. ويبدو أن هذا كان طالع مشمشتنا الشاميّة خصوصا وأن إرواءها وتعب أمي ضاعا سدى إذ لم تبد المشمشة أية علامات شفاء، رغم أنه وبعد الجرّة الأولى والثانية وعدم استجابة المشمشة دأبت أمي أن لا تكفت الجرة على جذع المشمشة قبل أن تمرّ على شيخة الحارة ل"ترقي" على "الميّات" احتسابا لعيون الحسّاد، فقد بدأت أمي تقتنع أن المشمشة مصابة بعين حاسد أو حاسدة.
ولم تكتف أمّي ب"رقوة" شيخة الحارة فزارت الشيخ محضرة من عنده مجموعة أوراق كتب عليها "رقوته" لمشمشتنا الشاميّة، موصيها أن ترمي ورقة في كل جرّة ماء وتحركها بسرعة وبيدها اليمنى بعد أن تغسل يدها بصابونة زيت بِكر، إلى أن تهتريء الورقة ولا يبقى في الماء أي أثر لخيوط الحبر المنساب منها، فقط عندها وقبل أن تهدأ المياه عن الحركة في الجرّة وتغيب الشمس يجب أن تكفتها على جذع المشمشة، وكل ذلك شرط ألا يفتح الورقة أحد حسب تعليمات الشيخ.
لقد فعلت ذلك من وراء ظهر أبي الذي كان ورغم "تركيّته" لا يؤمن بكل هذه "الخراريف" كما سمّى "صيبة العين"، ولا بكل أخواتها وأقاربها وأبناء عمومتها وخؤولتها من "الحجب" و"الرصد" و"الكتبة" و"الرقوة"، يسخر من المؤمنين بها ويدجّل أصحابها. ولكنه يسلّم بتعامل أمّي معها فلم يحاول يوما ويتعب نفسه بإقناع أمّي العدول عن تصديقها ويكتفي بابتسامة أو كلمة هنا أو هناك كلّما رآها "ترقي" لأحدنا متثائبة دامعة، وعلى الغالب بروحه الفكهة وسخريته اللاذعة المرّة.
لم تكد أمي تتناول ورقة ذلك اليوم وقبل ان ترميها في الجرّة وعلى حين غرّة، سحبها من يدها وسط احتجاجها المدوّي الذي لم يؤت معه ثمارا، وراح يقرأ ما فيها بما ملكه من سنوات تعلّمه القليلة في الكُتّاب وعلى مسمع من أمي ومنّا:
"رقوة شافية... من جميع العلل والعين والنظرة الحاسدة الشين... وهي عن حضرة الشيخ الفاضل الفضيل نفعنا الله من بركاته...أن تدفع يا ربّ العالمين عن حامل هذه الورقة شرّ العين وشرّ كل بلاء وشين... رقيتك يا حامل هذه الورقة من عين حادة النظر بحق سيّد الخلق والبشر رقيتك من عين المقطوعة الظل واللمس رقيتك من عين أحر من جمر الغضا رقيتك من عين مقطوعة الأصل والمعالق رقيتك من عين من غاب وحضر رقيتك من عين المحبين والمبغضين رقيتك من عين كل كاذب وسارق... رقيتك من كل وزير وعزيز (هنا علّق أبي: مين هذا الوزير موسى ديّان الأعور؟ وتابع القراءة) رقيتك من عين من في المساكن والدور رقيتك من عين الأهل والقرايب بحق ما يُتلا من المشارق والمغارب... أنا الراقي والرقوة قد رقيت وللبلاء قد دفعت".
لم يكد ينهي أبي حتى التفت إلى أمي ضاحكا قائلا:
ولك يا قليلة العقل!! المشمشة ضربها "أبو هارون" ومن تحت الأرض، والله يعوض علينا عوض خير!!
هو العرب ما قدروا يوقفولهم كم عجوز من ضَرِّيبات العين على الحدود وكل ما جعرت طيّارة لإسرائيل يسمطوها عين؟!
وكانوا يشوفولهم كم شيخ وشيخة ويرقوا لطياراتهم اللي راحت قطايع على الأرض!!
شو عيونهن هذول صاحباتك بتتمرجل بس على مشمشتنا؟!
ردّت أمّي باقتضاب والحزن باد عليها: الله يسامحك !
سعيد نفّاع
أوائل حزيران 2012 
 

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]