( أنا من الربّة البيضاء، التي سيقيم الله عليها عرشه يوم القيامة، ليحاسب البشر )، بهذه الكلمات التي قد لا يعادلها أي كلام آخر في الفخر والاعتزاز، وصف أبي بلدته أم الزينات، كلمات سمعتها في طفولتي وحفرت من يومها في قلبي وعقلي ووجداني.. صحيح أنني قلت يوم سمعتها من أبي أنها كادت تلامس الكفر-- لان أبي ( وهذا ما ظننته حينها ) قد غالى بوصف بلدته حتى جعلها قطعة من الجنة والفردوس العظيم-- إلا أنني وبعد أن كبرت وذهبت إلى هناك لزيارة أطلال البلدة برفقة أبي في العام 1971 --- دهشت كثيرا من جمالها وطبيعتها الفتانة، وقلت حينها: لقد كان أبي على حق ..!! فأم الزينات هي الجنة بعينها، فيها الجبل الشامخ – جبل الكرمل -- وما أدراك ما الكرمل..!! – وفيها الغابات والأحراش، وفيها الينابيع والآبار-- فيها السهل المنبسط الخالي حتى من الحصى، وفيها الوعر وكروم الزيتون.. قرية كانت تربض كالقلعة على سفوح جبل الكرمل العظيم، لتطل على البحر الأبيض المتوسط من جهة، وعلى سهل مرج ابن عامر ( الأكثر خصبا في فلسطين ) من الجهة الأخرى، وتنبسط أراضيها كالكفّ في سهل الرّوحة الفسيح، لتنتج الحنطة والبقوليات والذّرة، بالإضافة إلى ما تنتجه أراضيها الجبلية من زيتون وكل ما تشتهيه الأنفس من أصناف الفواكه كالتين والرمّان والعنب والصّبر.. كانت أم الزينات تبعد عن مدينة حيفا الساحرة 17 كم-- باتجاه الجنوب الشرقي، ويحاذيها من الغرب قرية اجزم وأحراش الكرمل، ومن الشمال قرية الدّالية الدّرزية وكذلك أحراش الكرمل، ومن الشرق واد الملح ومرج ابن عامر، ومن الجنوب قرية الريحانية وسهل الروحة... كانت أم الزينات قرية بسيطة هادئة لم يتجاوز عدد سكانها في العام 1948 -- 1750 نسمة، وأهلها فلاحون حقيقيون، صلاب مجتهدون، يحبون الأرض كحبّ أبنائهم، فلم يفرّطوا في شبر منها، ولم يبيعوا حبّة تراب واحدة للغاصبين والسماسرة، كانت وادعة وفي نفس الوقت حصينة، فاستحقّت ما قاله عنها الثائر الفلسطيني الكبير أبو درّة بأنها البلد الأمين، وبالفعل شكّلت الملاذ الأمين للثائرين على الاستعمار البريطاني، وللمقاومين للزّحف اليهودي الاستيطاني، ولم يستطع المحتلون الإنجليز إلقاء القبض على أيّ من الثّوار في أراضيها، رغم أنها عرفت كقاعدة خلفية أساسية للثوار، وهو الأمر الذي أكّدته وقائع معركة أمّ الدّرج الشهيرة.
دخلتها أول مرة بصحبة أبي الذي عرّفني بكل معالمها --- بآبار مياهها العذبة-- كبير الهرامس وبير الناطف وبير شمهورش-- وعيون مائها كعين البويضة وعين الصفصافة وعين الشّمالات وعين الشّقّاق، وعين الحاج ونبع العلّيقة وواد أبو نمر.... وأخذني إلى آثارها القديمة ليؤكد لي عراقتها وجذورها الضاربة في عمق التاريخ، فعرّفني بمغر النّواميس ومغارة المعلّقة، وأصرّ على أن أطأ بقدمي معظم قطع الأراضي التي كان يحفظ أسماءها كما يحفظ أسماءنا نحن أبناؤه.. فاصطحبني إلى جورة البير والبطيحي والحج حسن، وخلة الجاج وبكّار والمصرارة وواد الملح، وجرماشة والمظبعة وذراع نجم وخلة التينة، ووعرة الزيتون والمل وخلة الزّرد والمقشور، وأم القدور وأبو الواويّات وأم السّحالي.. عرّفني على مواقع البيادر الغرابا والبيادر الشراقا حيث كانت تقام الأعراس وليالي السّمر والأفراح.. وعرّفني على موقع الجامع والمدرسة والمقبرتين -- القديمة حيث كان جدي الأول محمد الحمد قد دفن، وكذلك المقبرة الجديدة.. عرفني على مواقع المنازل فقال لي هذا موقع بيتنا القديم ( دار صبح )، وهذا موقع دار بشر، وهذه حارة المراح حيث كانت عائلة الفحامنه تسكن، وهذا موقع دار أبو خليل، وهذا موقع دار حسّان، وموقع دار الشيخ يوسف، وهذا موقع دار الحردان، ودار الخطيب، ودار سلامة، ودار أبو طربوش، ودار البيّاري.. ولم ينسى دار أبو حنا-- النصراني الوحيد الذي كان يسكن في القرية-- والذي كان يعمل اسكافيّا وخياطا وطبيبا وصاحب دكان في البلدة.
كان أبي يحبّ أمّ الزينات ويعشق أمّ الزينات— بأرضها وسكانها-- حبّا لم أر شبيها له طيلة حياتي— لدرجة انه وأثناء سيره بين أطلالها، كان يتعرّف على البيوت ( التي أزالها الغزاة اليهود نهائيا من على الأرض في أواخر السبعينيّات من القرن الماضي ).. كان يتعرّف عليها من أشجار الزيتون والتين والرمان والصبر، التي ما زالت باقية حتى اليوم، تنمو وتعيش في مكانها، صامدة رغم كل محاولات الصهاينة الغاصبين لطمس كل شيء عربي في البلدة... وعند كل بيت كان أبي يتوقّف ليتذكّر ويتنهّد ويقول: هذا بيت فلان الذي كانت زوجته فلانة وأبنائه فلان وفلان، وهم يعيشون الآن في البلد الفلاني.. ورغم كبر سنّ والدي إلا انه لم يكن يتعب من التجوال في البلدة، وكان يقضي ساعات وساعات هائما على وجهه في دروبها القديمة، وكأنه يبحث عن شيء ما كان قد نسيه عند خروجه الأخير من البلدة.. وعندما كان يحين موعد العودة كان أبي يركب السيارة معنا متثاقلا، وكأنه يريد أن يقول لنا: اتركوني هنا في بلدتي، وعودوا انتم إلى مخيمكم..
أما نحن الجيل الثاني للهجرة ومن شدّة تعلّقنا بديارنا الأولى، فقد واظبنا على تنظيم رحلة جماعية للحجّ إليها كل عام، وخصوصا في ذكرى النكبة 15 أيار، وهو اليوم الذي يعني لنا الشيء الكثير، حيث اجبرنا فيه الصهاينة وبالقوة على ترك منازلنا وأرزاقنا وممتلكاتنا، لنصبح من لحظتها مهجرين مشرّدين نحمل اسم لاجئين، ويكون لنا رقم في سجلات الأمم المتحدة وسجلات وكالة غوث اللاجئين... لقد سالت أبي ذات يوم لماذا خرجتم من بلدتكم..؟ ولماذا لم تدافعوا عنها..؟ فأجابني والحسرة تعصر قلبه : لقد فعلنا كلّ ما نستطيع وقاومنا بكل ما نملك لكن سلاحنا كان بسيط وقليل، ولم نكن مدربين جيدا بالمقارنة مع اليهود الأحسن تدريب، والمالكين لأحدث الأسلحة الإنجليزية... ورغم كل ذلك فلم نترك ديارنا إلا بعد أن قتلت قوّات الهاجاناه العديد من أبناء بلدتنا، وفجّرت عددا كبيرا من المنازل----
لقد ظلت حكايا اللجوء ترنّ في آذاننا، وما زالت كذلك إلى يومنا الحاضر، وحرصنا نحن على نقل هذا التراث إلى أبنائنا، ليكون كأمانة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل... لقد مات أبي – أبو عاطف رحمه الله– في العام 1986 وهو لم تفارق لسانه سيرة أمّ الزينات وأهل أمّ الزينات، وقد أوصانا أن ننقل رفاته بالإضافة إلى رفات صديق آخر عزيز عليه ( هو داوود الخالد ) إلى أم الزينات، وذلك عندما نعود إليها ونحررها من دنس الغاصبين.
فسلام عليك يا أمّ الزينات.. سلام على روابيك ومروجك الخضراء، وينابيعك الصافية كعين الدّيك.. سلام على اهلك أصحابك المشرّدين في كل أرجاء المعمورة، الحالمين بالعودة إلى أرضهم وارض آبائهم وأجدادهم في يوم من الأيام... مهما طال الزمن ومهما تباعدت المسافات.

خالد منصور
مخيم الفارعة -- 28/4/2012
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]