يُراقب الخبراء الاقتصاديون وسائر المهتمين سواءً على صعيد رجال الأعمال أو الساسة في العالم ما يجري في بورصة الولايات المتحدة، وفي اقتصادها بصورة عامة، خاصة بعد أن خفضت وكالة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني، نهاية الأسبوع الماضي، تصنيف ديون الحكومة الأمريكية، وادعت الوكالة ان إجراء خفض العجز المتفق عليه لا يمكن السيطرة عليه في ظل الدين المتزايد للولايات المتحدة.

يُشار أنّ تصنيف الدين الأمريكي وُصف بالممتاز منذ مدة طويلة والذي يسمى بـ "ايه ايه ايه"، ليتم خفضه الى "ايه ايه موجب" بناءً على تصرف سندات الدين الحكومية طويلة الأمد، حيث ترى الوكالة أنّ هناك توقعات سلبية، بشأن الديْن، بينما تهدد الوكالة بإمكانية خفضها التصنيف في العامين المقبلين الى "ايه ايه"، في حال ارتفعت أسعار الفائدة أو فشلت الحكومة في تخفيض الإنفاق الحكومي.

بينما ترى وكالات اخرى للتصنيف الائتماني أنّ التخلف عن سداد الديون المتراكمة على الحكومة الأمريكية تظل ضئيلة للغاية، رغم التخوف والتوقعات السلبية.

امطانس شحادة: سوء إدارة وراء الأزمة الأمريكية

وتعقيبًا على ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية، توجهنا إلى الباحث الاقتصادي، في مركز مدى، امطانس شحادة الذي قال: أولاً نحنُ لا نتحدث عن أزمة اقتصادية عالمية مرتبطة بالولايات المتحدة، الموضوع هو أنّ هناك ديون متراكمة تتحملها الحكومة، وهناك انهيار في أسواق الأسهم الأمريكية، نعم هناك بوادر أزمة اقتصادية جدية، أسبابها الاقتصادية متعددة، وأهم سببين:

الأول: فشل الإدارة الأمريكية في التعامل مع أزمة الديون هذه، فالحكومة الأمريكية اعتادت أن تصرف أكثر من دخلها، وفي مثال بسيط أنّ رب العائلة الذي يصرف أكثر من دخله يُضطر إلى الاستدانة، وهذا ما تفعله الحكومة الأمريكية. وكان الاستيدان في السابق مغرٍ للحكومة الأمريكية أن تجنّد الأموال بفائدة تكاد تكون صفرًا، بسبب الحصانة وقوة الاقتصاد الأمريكي.

السبب الثاني هو خفض الضرائب على الشرائح الغنية والشركات بشكل كبير، وفقا للفكر الليبرالي الذي نفذته إدارة الرئيس السابق بوش، بالتوازي لإدارة عدة حروب في الوقت ذاته، ودون فرض ضرائب لتمويل هذه الحروب. هذا التزاوج بين شن حروب، إعفاءات ضريبية للأغنياء وكبرى الشركات، أدخل الاقتصاد الأمريكي الى أزمة.

هذان السببان دفعا بالديون إلى الارتفاع إلى 15 ترليون، ورغم ذلك فإنّ هذه الديون لا تزيد عن 70% من الناتج المحلي الأمريكي، ما يعني أنّ المصيبة لا تزال بمنأىً عن الحكومة الأمريكية.

وما جرى في الآونة الأخيرة سببه النقاشات الأيديولوجية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول سندات الأسهم، ورفع سقف الاستدانة للحكومة الأمريكية، ثم تراجع وكالة التصنيف عن خفض التصنيف، وبذلك خسرت أعلى درجة تصنيف ائتماني، لأول مرة في تاريخها.
وأضاف امطانس شحادة: ما تمر به الولايات المتحدة هو جزء من أزمة مالية عالمية عصفت باقتصاد الدول الليبرالي في السنوات الأخيرة، وتعبر عن مأزق للنظام الاقتصادي العالمي الحالي.

وكان للإدارة الأمريكية السابقة بقيادة بوش تأثيرًا مباشرًا لِما يحُل اليوم بأمريكا، فبوش قام برفع المصاريف من خلال الاقتراض، ثم ظهرت أزمة سوق العقارات.

وحين تعرضت الشركات الاقتصادية الأمريكية إلى أزمة جدية تمّ ضخ ترليون دولار لإنقاذ هذه الشركات، لكن يظهر أنّ هذا الحل لم يكن سوى الأكمول الذي يُعطى لمريض السرطان، وما يعنيه ذلك من خطورة الوضع.

الضربة الاقتصادية للولايات المتحدة قد تصيب إسرائيل في الصميم

وأشارَ الباحث شحادة أنّ حل الأزمة يجب أن يتم من خلال تغيير بنيوي في الاقتصاد الامريكي وتغير السياسات الاقتصادية، وانهاء استعمال الحلول العسكرية في السياسية الخارجية التي ترهق الخزانة الامريكية. مضيفًا: إنّ الأزمة الحالية التي تمر بها الولايات المتحدة، كفيلة بضرب القلب النابض للاقتصاد العالمي فهي تؤثر على سائر دول العالم، بِما فيها أوروبا وشرق آسيا وأيضًا إسرائيل

ورغم التأرجح في العطاءات الأمريكية لإسرائيل، ففي حقبة معينة أيام حكم بوش الأب اوائل التسعينيات، ربطَ الأخير بينَ منح ضمانات أمريكية لإسرائيل وبين وقف البناء في الاستيطان، لكن حكومة شامير رفضت الشروط وسقطت وجاءت مكانها حكومة رابين التي واقفت على شروط الويايات المتحدة وأخذت القروض وانقذت الاقتصاد الإسرائيلي. كذلك الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، اعتمدت على ضمانات الولايات المتحدة، مثل حكومة شارون التي افلست تقريبا في العام 2003 وما انقذها كان ضمانات امريكية لقروض بقيمة 121 مليارد دولار.

وتابع شحادة: إنّ نجاة الاقتصاد الإسرائيلي من الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالعالم عام 2008، بسبب ارتباطها بالعقارات فقط، لكن دخول الولايات المتحدة إلى ركود اقتصادي يشكل خطورة على الاقتصاد العالمي والإسرائيلي. وبدا واضحًا أنّ أسهم الشركات الاسرائيلية التي تتداول في سوق نيويورك مثل: بيزك، سلكوم، اورنج، هبطت بشكلٍ كبير.

ناهيك عن الحراك الاجتماعي الاقتصادي في إسرائيل والذي له تبعاته وتأثيراته على الاقتصاد المحلي أيضًا.
وما عادت إسرائيل بقادرة على مساعدة الشركات الكبيرة في البلاد، كما حدث في الأعوام الماضية، عندما قامت البنوك الإسرائيلية بمحو ديون شركة "ديلك موتورز"، الإسرائيلية.

وأوضح شحادة أن هناك فعلاً بوادر لأزمة سيولة في بعض الشركات الاسرائيلية مثل يتسحاك تشوفا وشركة تاو لصاحبها ايلان بن دون (من المساهمين في شركة اورنج)، واذا تفاقمت هذه الازمة قد يكون على الحكومة التدخل ومساعدة شركات متعثرة. وفي واقعالاحتجاح الحالي وامكانية تغير سلم مصاريف الحكومة سيكون من الصعب الاستجابة لمطالب الشركات الكبيرة او اسقاط ديونهم للبنوك او الافراد.

الارتباط الوثيق بين الاقتصاد والسياسي

ويقول الباحث امطانس شحادة: "وفقا للأبحاث ودراسة أنماط التصويت في الولايات المتحدة فإنّ الناخب يعاقب الحاكم على اداء الاقتصاد الكلي (الماكرو) أي الحالة الاقتصادية العامة للبلاد، سواء كان ذلك بارتفاع البطالة أو بالتأثير على أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء، بينما، لم تجد ابحاث الانتخابات في اسرائيل، وأبحاثٍ أجريتها أنا، تطرقتُ خلالها للانتخابات 1996 و 1999، لم يظهر تأثير كبير لما يسمى "تصويت اقتصادي" اي ان الحالة الاقتصادية الكلية اي الماكرو لم تؤثر في السابق بشكل كبير على نتائج الانتخابات، إنما يختار الناخب وفق الوضع السياسي في الدولة والحالة الامنية، اما في حال تفاقمت الازمة وفشلت الحكومة في ادارتها فقد تؤثر بصورة مباشرة على السياسية.

وفي إسرائيل هناك تجارب سابقة بما يتعلق بتباطؤ الأداء الاقتصادي ، فهناك فتراتٍ تشهد فيها البلاد نموًا اقتصاديًا ثم تتبعه حالة ركود اقتصادي، وفي حالة حدوث ذلك قريبًا فإنّ الحكومة ستكون مُجبرة على ضخ ميزانيات أكبر للمصاريف والإنفاق، وزيادة المصاريف العامة والاستثمارات.  لكن يظل وضع إسرائيل جيدًا مقارنة مع بعض الدول الأوروبية، خاصةً أنّ لديها فائض كبير من العملات الأجنبية ومن الذهب والاستثمارات الأخرى.

انهيار الاقتصاد بسبب النظام الليبرالي لا ينقذه النظام الشيوعي!

وقال الباحث امطانس شحادة: "ما من شك أنّ الاقتصاد الليبرالي قد دخل ازمة حقيقية تعصف بالولايات المتحدة وسائر الدول التي تعتمد هذا النظام، لكن ما يجري لا يعني بالضرورة العودة إلى النظام الاشتراكي، الذي ثَبُت أنه فاشل، ومن الواضح ان هناك حاجة لتدخل الدولة في السوق الحرة ومراقبة الأسواق، فبالمحصلة هذا ما يضمن نظام اقتصادي جديد أفضل من الأنظمة الحالية، ويضمن أيضًا ضبط أكبر للسوق الحرة من خلال خلق توازن ما بين السوق الحرة وتدخُل الدولة.

لكن الحاجة لفرض تقييدات ومراقبة صارمة أكثر من الدولة على ضوء ما أفرزه الجشع في السوق الحُرة، لا يعني ان البديل هو نظام اشتراكي او إدارة الاقتصاد بشكل تام عن طريق الدولة، ما يعني ان السوق والدولة والمواطنين سيجدون نقطة توازن جديدة وتوزيع جديد للقوة لضمان مصالح الجميع. سيكون هناك نظام اقتصادي حر مع تدخل اكبر للدولة دون ان يعود النظام الشيوعي الذي أثبت فشله كليًا.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]