في اعقاب الاوضاع التي تشهدها المنطقة والحديث عن امكانية اندلاع حرب على الحدود اللبنانية، اجرى موقع "بكرا" لقاء مع د.رؤوبين بيدتسور حول الحرب على لبنان، حيث قال المحلل الاسرائيلي د. رؤوبين بدتسور ان فشل الولايات المتحدة في حرب لبنان بدأ يتضح عندما تبنى الجنرال فستمورلاند,قائد القوات الامريكية في فيتنام , نهج "احصاء الجثث", كبديل للانتصارات العسكريه، عندما لم يكن بإمكانه الاشارة الى انجازات في ارض المعركة قام هذا القائد بإرسال عدد جثث جنود الفيتكونغ الذين قتلهم جنوده يوميا الى واشنطن، الجيش الاسرائيلي تبنى , كما تبين لنا , نهجه هذا.

عندما يقوم الجيش الاكبر والاقوى في الشرق الاوسط بخوض منازلة طوال اكثر من اسبوعين مع 50 مقاتلا من حزب الله في بنت جبيل ولا ينجح في اخضاعهم , ولا يتبقى امام قواته الا الاشارة الى عدد جثث مقاتلي العدو، بنت جبيل , كما يجب الافتراض , ستتحول الى رمز لحرب لبنان الثانية، ستكون هذه المعركة في تراث وتقاليد مقاتلي حزب الله مثل ستالينغراد لبنانية، اما بالنسبة لنا فستكون تذكارا مؤلما لفشل الجيش الاسرائيلي في الحرب .

نحن لسنا امام فشل عسكري فقط, هذا فشل استراتيجي لم تتضح بعد تبعاته واسقاطاته السلبية بعيدة المدى، ومثل الملاكم بعد ان يتلقى الصدمة , نحن ما زلنا جاثمين على الارض في شبه اغماء محاولين فهم ما حدث لنا، مثلما افضت حرب الايام السته الى تغيير استراتيجي في الشرق الاوسط وتكريس مكانة اسرائيل كدولة اقليميه عظمى , قد تؤدي حرب لبنان الثانية الى عملية معاكسة، هذه الحرب، كما اتضح بسرعة كبيرة جدا, كانت حربا على "الوعي" و"الردع"، وقد فشلنا في الحالتين.

النظرية الجاهزة فشلت مرة اخرى

الامر المهم فعلا هو صورة الجيش الاسرائيلي ومعه صورة اسرائيل في نظر العدو الذي تقاتله وفي نظر الخصوم الاخرين في المنطقة، وهنا يكمن الخطر الافدح الذي تسببت به هذه الحرب . في دمشق وغزه وطهران ,وفي القاهرة ايضا , ينظرون باستغراب للجيش الاسرائيلي الذي لا ينجح في اخضاع تنظيم عصابات صغير (1500 مقاتل حسب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية وبضعة الاف حسب مصادر اخرى) طوال اكثر من شهر , ويفشل مع دفع ثمن فادح في اغلبية المعارك التي يبادر اليها في جنوب لبنان , والادهى من كل ذلك - انه لا ينجح في شل قدرة حزب الله على اطلاق الصواريخ,الامر الذي يجبر اكثر من مليون مواطن اسرائيلي على ملازمة الملاجئ اكثر من اربعة اسابيع، ما الذي حدث لهذا الجيش العملاق الذي لم ينجح بعد شهر من التقدم اكثر من بضعة كيلومترات في الاراضي اللبنانيه -يتساءل الكثيرون اولئك الذين يخططون للحرب القادمة ضد اسرائيل نجاح الردع الاسرائيلي كان مرتكزا على اعتراف العدو انه سيدفع ثمنا باهظا جدا اذا مس باسرائيل .

هذا الامر حال على سبيل المثال حتى اليوم , وخلال الحروب، دون اطلاق مئات الصواريخ السورية على العمق الاسرائيلي , حيث كان هناك خوف من توجيه اسرائيل لضربات قاسية لدمشق وغيرها من المدن السورية المركزية، ولكن عندما تطلق اكثر من 3 الاف صاروخ على الجليل وحيفا والخضيرة من دون ان تتمكن اسرائيل من جني الثمن من اي احد , يتصدع الردع الاسرائيلي ويتضرر، من المحتمل ان يظهر في دمشق في مناسبة قادمه من يقرر ان دفع العملية السياسية يستوجب اطلاق الصواريخ على تل ابيب , ذلك لأن اسرائيل لم تقم فقط بالرد الحقيقي على اطلاق الصواريخ من لبنان وانما اضطرت ايضا الى الموافقة على تسوية اممية تبقي على الترسانة الصاروخية بيد حزب الله .

لجنة اغرانت منحت مصطلح"النظرية" مغزى سلبيا في السياق الاستخباري. لجنة التحقيق التي شكلت سرعان ما اكتشفت ان الجيش الاسرائيلي وصانعي السياسه من خلفه قد اصيبوا بسرعة كبيرة بداء النظرية الخاطئة في مسألتين اولا , خلال السنوات الست الاخيرة تكرس الاعتقاد انه لن تكون هناك حاجة لمقاتلة حزب الله على نطاق واسع، اذا حدثت عمليات عسكرية في جنوب لبنان فستكون قصيرة و محدودة حسب اعتقادهم . ثانيا , اذا ظهرت الحاجة لشن الحرب على حزب الله رغم ذلك , فان الجيش الاسرائيلي سينجح في تحطيم هذا التنظيم خلال ايام معدودات , وتفكيك قيادته وانهاء الحرب بشروط مريحة لاسرائيل .

وهكذا دخلنا الى الحرب، الجيش ترك رئيس الوزراء والحكومة يعتقدون ان سلاح الجو سينجح في تصفية قدرات حزب الله القتالية خلال ايام معدودات , ومن ثم سيسود وضع جديد في لبنان . على اساس هذه الوعود حدد اولمرت اهداف الحرب الطموحة والتي لم تكن قابلة للتحقيق بطبيعة الحال مثلما حدث قبل حرب الغفران , كان هناك مزيج هدام من العجرفة والغرور والغطرسة والاستخفاف بالخصم، الجنرالات كانوا واثقين جدا من نجاح سلاح الجو لدرجة انهم لم يعدوا اي بديل في حالة الفشل في تحقيق الاهداف، وعندما اتضح بعد اسبوع ان حزب الله لا ينهار , وان صواريخه لم تتضرر بصورة ملموسة , علق الجيش الاسرائيلي في ضائقة حقيقية وحالة من الارباك، هذا هو سبب التردد في استخدام القوة وانعدام العزيمة والتصميم في الدفع بالقوات البرية .

القيادة التي اختفت

واضاف: عملية اتخاذ القرارات التي قادت الى هذه الحرب كشفت مرة اخرى عن الخلل الخطير جدا في عملية رسم السياسات على مستوى الامن القومي ، منذ اقامة الدولة لم تشكل اي حكومية هيئات استشارية مهنية قادرة على مساعدتها بصورة جدية في تدارس وتفحص اقتراحات الجيش وخططه، في هذه المرة , مثل كل المرات السابقة, كان الجيش وليس الحكومة هو الذي حدد ما ستفعله اسرائيل في لبنان، مجلس الامن القومي الذي يعتبر هذا دوره المنوط به لم يطلب بتمحيص خطط الجيش واثارها واقتراح البدائل، الغطرسة والثقة الذاتية المفرطة التي ميزت قيادة الجيش تسببت في اهمال تحصين الجبهة الداخلية، ذلك لأنه اذا كان من الواضح ان سلاح الجو سيقضي على القواعد الصاروخية خلال عدة ايام فلماذا يطلب من سكان المنطقه الشمالية اعداد الملاجئ والتزود بالمؤن، والنتيجة معروفة، اكثر من مليون مواطن قبعوا في الملاجئ لاكثر من شهر باحثين عن الطعام من دون ظروف حياتية ملائمة وبطبيعة الحال الاستخبارات ايضا .

المفاجآت تتالت مرة اخرى ومعها الاخفاقات , التي يعود بعضها لتبني النظرية الخاطئة بصدد قوة وقدرات حزب الله، نجاح حزب الله في مفاجأة دورية للجيش الاسرائيلي واختطاف اثنين من عناصرها, الامر الذي ادى الى اندلاع هذه الحرب , نابع من فشل استخباري، مخابرات الجيش الاسرائيلي لم تقدر بصورة صحيحة قدرات حزب الله القتالية , ولم تعرف بوجود انفاق على مقربة من مواقع التنظيم , كما اخطات في جمع المعلومات حول استعدادية حزب الله وجاهزيتهم في بنت جبيل وغيرها المزيد المزيد من الاخفاقات الاستخبارية، استخبارات سلاح الجو فشلت هي الاخرى عندما لم تعرف بوجود صواريخ ارض - جو الايرانية لدى حزب الله , والتقدير الاستخباري الناجح للصواريخ المضادة للدبابات على يد مقاتلي حزب الله كشف هو الاخر عن فشل استخباري يذكر بدرجة كبيرة لما حدث في عام 1973 الجيش الاسرائيلي قام بنصب بطاريات الباتريوت بصورة صاخبة ومدوية بجانب حيفا وصفد، التغطية الاعلامية الواسعة لنصب هذه المنظومة الدفاعية رمت الى طمانة سكان الشمال، ولكن منذئذ لم نسمع حتى كلمة واحدة عن هذه المنظومة الدفاعية المدهشة، كل ما هو معروف انه لم تجر محاولة واحدة حتى لاعتراض صواريخ حزب الله، مليارات الدولارات صرفت على المنظمة المضادة للصواريخ , الا انها لم تتجسد في ساعة الاختبار، الدولة تخصص 11 مليار دولار في كل سنة لميزانية الدفاع، 15 في المائة تقريبا من المنتوج القومي الخام مخصصة للامن، ومع ذلك عندما يستدعون جنود الاحتياط يتبين انهم يفتقدون للعتاد الاساسي: الخوذات , والسيارات وحتى النقالات، وحدات كاملة اضطرت للقتال اكثر من يوم من دون طعام وماء، يبدو ان ذروة الوقاحة هي تلميحات ضباط كبار في ان النقص في العتاد للجنود الذين ارسلوا الى لبنان نابع من تقليص الميزانية الامنية ربما تعتبر هذه فرصة للقضاء على الذريعة المتواصلة التي تذرع بها الجيش وهي تقليص الميزانية، هذه الميزانية لم تتقلص في العقد الاخير, بل ازدادت , واسرائيل تخصص للميزانية الدفاعية من مجموع مواردها اكثر من اي دولة ديمقراطية اخرى في العالم (15 ضعف بالمقارنة مع اليابان وثلاثة اضعاف بالمقارنة مع اميريكا) .

حرب يوم الغفران محفورة في الذاكرة كحدث انعطافي استنهاضي حيث تصدعت بسببه ثقة الجمهور بالجيش، مرت سنوات غير قليلة الى ان استعاد الجيش هذه الثقة، ما زال من المبكر ان نقدر اذا كانت حرب لبنان الثانية ستستذكر كخط انكسار سيصحو الجمهور من بعده من وهم قوة الجيش الاسرائيلي غير المحدودة .

* د.رؤوفين بيدتسور كاتب دائم في صحيفة هارتس , طيار سابق في سلاح الجو الاسرائيلي , محاضر في عدة جامعات في البلاد , مختص في الشؤون الامنية الاستراتيجية , محلل في الشؤون الامنية والاستراتيجية في عدة وسائل اعلام حاولت السلطات الاسرائيلية الصاق تهمة التجسس به بعد ان كتب مقالا عن السلاح النووي الايراني
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]