تطمح مختلف المباني المشيدة الى تكوين حكاياتها الخاصة، وتزيد المباني المميّزة معماريا ً الى تلك الحكايات اساطير مضافة، تتداخل فيها متعة التفصيل، مع التشويق المـتأسس عن مجرى الاحداث.

بيد أن بامكان مجرد الكلام وحده، عن محض "مواضيع" لبُنى متخيلة، محفورة في مكان ما من "سجل" الذاكرة المستعادة، بامكانه ان يخلق، هو الاخر، قصصه الجذابة، وبمقدوره ان يثير انتباهنا " بسردية " تاريخانية، عن سيرورة رموز ذلك الكـلام المحكي و تداعيـاته!. واذ قـّدر لتكوينات المبنى المميز معماريا ً ان ينزع الى تجسيد شكل " ثيمة " شيقة، ذات نفس ميثولوجي؛ فان انجاز عمارة ذلك المبنى، سيكون لا محالة بمنزلة حدث مهم وراسخ في سفر كنوز البيئة المبنية. وهذا هو بالذات، ماتم تحقيقه في مشروع " مكتبة الاسكندرية الجديدة " بمصر.

فاقتران التصميم المعبر مع الفكرة الاسطورية لموضوعة " الحدث " القديم هو الذي يمنح عمارة " مكتبة الاسكندرية " الجديدة تلك الاهمية الفائقة للحيّز المصمم؛ويجعلنا نولي اهتماما عاليا الى مكان، أو الى " روح " مكان الموقع المصطفى؛ كما ان ذلك الاقتران هو، الذي ايضا، يصنع من شأن العمارة المتحققة منجزا مثيرا، مقارنة بما هو حاضر في المشهد المعماري العالمي الراهن. وبافتتاح المكتبة ابوابها للجمهور في 25 نيسان/ ابريل 2002، واجراء مراسيم افتتاحها رسميا ً في 16 تشرين الاول / أكتوبر من نفس العام، تكون " مكتبة الاسكندرية " قد اعلنت عن تأسيس فصول " لقصة " ممتعة، تشي تفاصيلها الى استثنائية نادرة لتسلسل فعاليات: المشاركة، والفوز، والتنفيذ لفكرة معمارية ذكية، تميزت ايضا ً، بكونها جريئة!.

قرار اعادة بناء مبنى " مكتبة الاسكندرية "

تلبية لفكرة طموحة، طرحت في منتصف السبعينات، وما لبثت ان تحققت تصميميا ً في نهاية الثمانينات، ارتؤي ان يكون المنهاج التصميمي للمكتبة الجديدة، متضمنا ً افكار لمقاربات تنشد الى استرجاع قيم وروح سابقتها، التى شيدت قبل اكثر من نيف وثلاثة وعشرين قرنا ً، والمتمثلة في قيم الانفتاح والحوار، والعقلانية التى من خلالها يتم تشجيع ضروب البحث والاستكشاف.
ويحدد "اسماعيل سراج الدين " – وهو مدير المكتبة الجديدة، واحد النقاد المعماريين العرب المعروفين، اربعة اهداف يراها اساسية تعمل كاعتبارات لتشكيل الخلفية المضمونية للحل التصميمي للمبنى الجديد، وهي ان تكون المكتبة:

• نافذة يطل منها العالم على مصر؛
• نافذة تطل منها مصر على حوض البحر المتوسط، وعلى العلم ككل؛
• مركز رائد للسيطرة على الثورة الرقمية؛
• مركز مزدهر للتعلم وللتناظر وقطب حوار فيما بين الثقافات والحضارات.


اسماء المعماريين المشاركين في التصميم

يعيد فوز المكتب المعماري " سنوهيتا Snøhetta " النرويجي في المباراة الدولية التى نظمها " أتحاد المعماريين الدولي " بالاشتراك مع منظمة " اليونسكو "، وبطلب من الحكومة المصرية، لاعداد تصاميم مبنى " مكتبة الاسكندرية " الجديدة، يعيد الى الذاكرة الطفرات المثيرة، والاختراقات المفاجئة، التى شهدها سجل المبارات الدولية السابقة اسماء المعماريين الذين شاركوا في التصميم:
النمساوي " كريستوف كابلار Christoph Kapeller "
والنرويجي " كيتيل تورسين Kjetil Thorsen "
و الامريكي " كريغ ديكيرز Craig Dykers "

مشاركي ومصممي مكتب " سنوهيتا " المعماري – امست اسمائهم مشهورة في الصحافة المتخصصة، ومعروفة لدى اوساط مهنـة عالـمية. وتبين، لاحقا، بانهم نظموا فريقهم التصميمي على عجل في مدينة " لوس – انجليس " بالولايات المتحدة – مقر سكن وعمل اثنين منهم، وقاموا بتأجير شقة في عمارة منعزلة، في تلك المدينة المطلة على المحيط الباسفيكي، هي الارخص التى بمقدورهم تأجيرها، لتكون بمثابة " استديو تصميمي ". وبعد شهرين من العمل المكثف والجدي، وبعد ان قاموا بعدة زيارات بحثية الى الصحراء خارج مدينة " لوس – انجليس "؛ ارسلوا تصاميمهم باسم مكتب " سنوهيتا " الاوسلوي، حيث كان زميلهم " تورسين " قد اسس سابقا ً هناك، في العاصمة النرويجية، مكتبا متواضعا ً بهذا الاسم، تيمناً باسم < قمة جبل >، يقع في شمال النرويج.
تضمن المنهاج المحتوياتي لمبنى الاسكندرية الجديدة، فضاءات متنوعة، كفيلة بتنظيم وتخديم الاهداف التى من اجلها تم ّ الشروع ببناء " مكتبة الاسكندرية "، واعادة افكار وقيم ما اورثه ذلك " الحلم " الذي ارتبط بتأسيس مكتبة الاسكندرية القديمة. من هنا ينبغي فهم تنوع محتوايات المكتبة، وادراك رسالتها كونها تخرج عن نطاق مفهوم " مكتبة عادية "، لتضحى اكثر من كونها مكتبة بكثير، انها بجد " مجمع ثقافة متشعب "
تشمل على ما يلي:

• خزين من الكتب يصل سعته ما بين 4 و8 ملايين مجلد؛
• مركز اتصال بالانتيرنيت؛
• ثلاثة متاحف؛
• خمس مؤسسات بحوث؛
• قبة فلكية؛
• اربع قاعات عرض لوحات فنية؛
• مركز مؤتمرات يسع 3000 شخص.

مفردة تصميمية اساسية

وهذه المفردة عبارة عن شكل دائري بسيط، يصل قطره الى < 160 > مترا ً، ذات سقف منحدر باتجاه البحر، اي باتجاه الشمال. وتتوزع فضاءات المكتبة المتنوعة داخل هذه الهيئة الاسطوانية، التى تشمل عدة مستويات بعمق 15.8 مترا تحت الارض، وثمة مستويات اخرى فوقها بارتفاع 37 مترا ً.

تشكل القاعة الرئيسية فضاءا مفتوحا ً موحدا ً بسبعة مستويات على شكل شرفات. ويقع قسم المطالعة فيها بحافة كل شرفة، وبجانبه مباشرةً،رفوف الكتب بنظام استعارة مفتوح. ويعطي هذا الاسلوب في تخطيط وتصميم المكتبات لقارئ المكتبة القدرة على استخدام سريع للكتب، كما يمنحه امكانية توليد فكرة متكاملة عن مكان موقعه في القاعة الفسيحة.

تؤمن مواضيع مستويات المكتبة السبعة داخل الشكل الاسطواني، لزائر المكتبة، الاطلاع على صنوف المعرفة المتنوعة؛ وتبدأ من
المستوى الاول الواقع في طابق التسوية الرابع، حيث نجد ما نسميه " جذور المعرفة "، وهي الفلسفة والتاريخ والجغرافيا..؛ ثم
المستوى الثاني طابق التسوية الثالث والمخصص للاداب والفنون، وفي المستوى الثالث طابق التسوية الثاني، الفنون والثقافة، وفي
المستوى الرابع التسوية الاول: المراجع العامة والمعارض؛ وتوجد ايضا هنا مكتبة ايداع مطبوعات الامم المتحدة بالاضافة الى العديد من المعارض ومتحفين هما الاثار والمخطوطات، اما المتحف الثالث والخاص بتاريخ العلوم فيقع اسفل القبة السماوية؛ وفي
المستوى الخامس عند مدخل المكتبة من جهة ميدان الحضارات، فهناك أرشيف الانترنت، وعلم الاجتماع والقانون؛ وخصص
المستوى السادس الى العلوم الطبيعية، وفي هذا المستوى، وعلى الناحية الاخرى من المدخل الرئيسي، يوجد مدخل المراكز البحثية، والمكتبات المتخصصة للنشء والطفل، وقاعة مخصصة لجمعيات اصدقاء المكتبة حول العالم؛ اما المستوى السابع فهو مخصص للتقنيات الحديثة. وفوق تلك المستويات السبعة، توجد قاعتان للندوات متصلة بالجزء الاداري والبحثي بالمكتبة من خلال قنطرتين معلقتين.

اسلوب التوزيع الفراغي للقاعة، وطريقة انارة هذا الفضاء الفسيح

الذي يشكل بمجموعه مفردة قاعة المطالعة الكبرى لمكتبة الاسكندرية الجديدة، وسينجلي امامه فضاءا فسيحا وواسعا ً، تصل مساحته الى اكثر من 000 20 مترا مربعا، وهو ما يعتبر من اكبر المساحات المغلقة في مباني الشرق الاوسط،اذا استثنينا فضاءات المساجد الجامعة التاريخية، كما انه يعتبر ضمن اوسع قاعات المكتبات في العالم. وهذا الفضاء مقسم الى سبعة مستويات، كما اشير سابقا ً، تنتشر فيه اعمدة دقيقة، يصل عددها الى نحو 90 عمودا ً، يتحدد مكانها طبقا ً للنظام الصارم لشبكة الوحدة القياسية Module التى تقدر ابعادها بـ 9.6× 14.4 مترا ً، وهو مقياس يلائم ابعاده نظام تخزين المكتبات الموحد. تتألف الاعمدة من بدن خرساني، يعلوه تاج بهيئة هرمية خاصة. وهذه التيجان تسند جسور متقاطعة ترتكز عليها وحدات الواح سقف القاعة المائل بدرجة ميل تصل الى(16.08) درجة باتجاه الشمال. وتنطوي الاعمدة المنتشرة في قاعة المطالعة على ابعاد مختلفة، يتراوح اطوالها بين < 4 > امتار في الجزء الواطئ و < 6 > امتار في القسم العالي.

يدرك معمار المكتبة جيدا ً، بان اهمية مفردة حّيز قاعة المطالعة الرئيسية، هي اهمية غير عادية، لها حضورها الاستثنائي مقارنة بمفردات التصميم الاخرى. كما انه يعي ّ ايضا ً، بان نوعية المقاربة التكوينية المصطفاة، والتى سيتعاطى بها لجهة تصميم هذا الحيّـز، ستكرس لاحقا ً صورة Image المبنى المقترح، وتسهم في ترسيخ هيئته المميزة في الذاكرة البصرية. وتأسيسا ً على ذلك فانه ينزع الى جعل حضور " الانشاء "، او ما يعرف بـ " التكتونية " Tectonic في " انتيرير " الحيز المصمم، ليكون وقع حضوره، حضورا ً بليغا ً، يشي الى عقلانية المشهد المرئي، رغم غرائبية حال وسع الفضاء المحصور، واسلوب انارته " الملونة "، تلك العقلانية التى توحي بها اعمال العناصر التركيبية المنتشرة في القاعة ونظامها البسيط المعتمد على الجسور الرابطة الافقية، والمساند العمودية الحاملة لها.


تجزأ الاعمدة الخرسانية الرشيقة فضاء القاعة الرحيب، وتسهل ادراكه بصريا ً. ويتغير منظر هذه الاعمدة، ونظام ترتيب موقعها، وشكلها باستمرار، كلما جال المشاهد ببصره نحوها، او تقصد الحركة من مكان الى آخر وسط فضاء القاعة، ويسهم التغيير المستمر في اكساب المنظر المرئي حيوية ظاهرة، يزيدها تأثيرا ً انتشار عناصر اثاث التصميم الداخلي في القاعة، من مناضد قراءة ومصاطب جلوس، ورفوف كتب، فضلا على عامل وجود القراء انفسهم وحركتهم الدائمة.


الانارة الخاصة داخل المكتبة


لا يمكن للمرء وهو يشاهد اسلوب فتحات الانارة السقفية، في قاعة مكتبة الاسكندرية الجديدة، الا وان يستحضر ولع " الفار آلتو " – المعمار الفنلندي المعروف، في توظيفاته العديدة لهذه المفردة التصميمية. وبواعث هذا الاستحضار الفكري، هنا، تمتلك مبرراتها، في الاقل لسببين، اولهما: قوة وحضور الارث " الآلتوي " التصميمي، وتأثيراته على عموم عمارة اسكندينافيا، وبضمنها بالطبع النرويج، ذلك الارث الذي ما فتأ المعماريون الاسكندينافيون يرون فيه نبعا ً غنيا ً من الافكار القابلة للمحاكاة والتأويل؛ والسبب الثاني يرجع الى التماثل الموضوعي لاستخدام هذه المفردة تصميميا ً. اذ من المعروف بان " آلتو " استخدم مفردة الانارة السقفية لاول مرة وبمهارة، في" مكتبة فيبوري " Viipuri ( 1927-35 ) الشهيرة، ثم كرر استخدامها في مشاريع عديدة بعد ذلك، سواء كانت منفذة اوغير منفذة. اي اننا ازاء فعالية " تناصية " مثمرة، تدلل بدءاً، على مرجعية القرار التصميمي لمعماريي مكتب " سنوهيتا " الشباب، وتفسر لنا تاليا ً،أهمية قرار توظيف مفردة الانارة السقفية والارتقاء بها، لتكون حدثا ً تصميميا اساسيا في اجراءات تنظيم حيز قاعة المطالعة الرئيسية في المكتبة الجديدة.

لقد عُد ّ حدث تنفيذ " مكتبة الاسكندرية " الجديدة، بمثابة تحقيق حلم؛ حلم معماري جميل، وحلم ثقافي رائع، وننتظر من فعل تحولات ذلك الحلم الى واقع مادي، مشيد الان في مكان ما، من شارع " كورنيش " مدينة الاسكندرية، ان يكون ذلك الفعل، وذلك الواقع حافزاً للجميع بمنطقتنا، لتحقيق احلام اخرى: جميلة ورائعة: معمارية وثقافية؛ تليق بما يعده لنا المستقبل الاتي السعيد، المستقبل الذي يبشر بملامحه، قرص " شمس " مبنى المكتبة، الذي تشي هيئته دائما ً الى فعل.. البزوغ!.

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]