بيانات الرئيس الامريكي بايدن بأن نتنياهو لا يعارض دولة فلسطينية، ومعها كل الصيغ التي رددها في الآونة الأخيرة للدولة الفلسطينية، تبدو مضللة لا تجديد فيها سوى التلويح بتراجع امريكي عن حل الدولتين لتصير صيغا ضبابية مختلفة.

لم يدم تصريح بايدن على حاله لأكثر من ساعات معدودة لدرجة قيام نتنياهو وبشكل نادر بالخروج عن تعاليم الدين اليهودي حول يوم السبت، وإصدار بيان توضيحي بأنه لا يدعم حل الدولتين وبأن السيطرة هي لإسرائيل من النهر الى البحر. لم ينتظر نتنياهو قيام سموتريتش وبن غفير بمطالبته بتوضيح موقفه بمعارضة تصريحات البيت الابيض، بل خرج بمبادرته ليوضح بأنه الوحيد القادر على التصدي للضغوط الخارجية ويقصد الامريكية.

ثمة معارضة واسعة للغاية في المجتمع الاسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية على حدود1967، وقد تعاظم هذا المنحى منذ السابع من أكتوبر الماضي، ولم يصدر أي تصريح من المعارضة المركزية بهذا الصدد الا وأكد الرفض المطلق في هذا الظرف كما صرح رئيس المعارضة لبيد. يعتمد نتنياهو هذه المعارضة الواسعة لتأكيد تصدره لهذا الموقف، سعيا للكسب الانتخابي، كما ان تصريحاته الشعبوية على غرار رفضه ان تحكم غزة "لا حماستان ولا فتحستان" وبأنه لا يريد "استبدال حكم حماس بسلطة تدعم الإرهاب وتربي الأجيال الناشئة على الإرهاب" قد وجدت لها ارضية مؤاتية ووحدت جمهور اليمين حصريا والائتلاف الحاكم الذي يبدو متماسكا ما دامت الخيارات بأن سقوط الحكومة تعني سقوط كل مركبات الائتلاف وعدم عودتهم للحكم. بيد أن حركة شاس الدينية الاجتماعية لا تعارض التحالف مع غانتس وحزبه وكذلك الأمر بالنسبة للحريديم، بينما لديهم اشكالية متبادلة مع لبيد رئيس المعارضة ورئيس حزب "يش عتيد" واشكالية اخرى مع ليبرمان رئيس حزب "يسرائيل بيتينو". وقد يكون حزب شاس هو المفتاح لإسقاط الحكومة إن لم يكن مسعى انقلابي داخل الليكود ضد نتنياهو الذي يسعى بدوره لإقامة حزب يميني جديد ذي واجهة من "اليمين الاجتماعي المعتدل" يستقطب الأوساط التي تنسلخ عن الليكود ولا تريد العودة إليه، ويحول دون انضمامها لمعسكر غانتس.

وجهة نتنياهو الاولية هي قاعدته الانتخابية إذ تشير كل التقديرات إلى أن المعركة الانتخابية قد بدأت مع تحول المطلب بانتخابات فورية وخلال الحرب إلى مطلب شعبي وسياسي شرعي صهيونيا لكونه منطلقا من أن الهدف هو انقاذ اسرائيل والانتصار في الحرب من خلال قيادة بديلة للدولة، وان مظاهر الوحدة واللحمة الاسرائيلية قد تصدعت وتلاشت حتى في داخل الحكومة ذاتها وداخل كابنيت الحرب أو بين رئيس الحكومة ووزير الأمن غالنت المسنود من قيادة الأركان. وفي حال اضطرت الحكومة للبتّ في مسألة المخرج السياسي من الحرب أو "اليوم التالي" للحرب، فإن نتنياهو في ظل الانتخابات يفضل التخلص من كابنيت الحرب بتركيبته الحالية والعودة إلى ائتلافه الحاكم ليقود الحرب وبقائه السياسي. وهو ما يجد تعبيرا عنه في حركة الاحتجاج الشعبي بشأن الرهائن والاسرى والتي تحركها القناعة بأن استمرار الحرب سيؤدي الى تفويت امكانية استرجاع الرهائن الأسرى في غزة، والقناعة بأن الائتلاف الحاكم لن يتيح عقد صفقة تبادل شاملة.

التصعيد على الجبهة الشمالية مع لبنان واستهداف مصالح ايرانية مباشرة وضباط ايرانيين في سوريا، يقع ضمن مسعى يقوده نتنياهو وهو استعادة حالة الردع المتآكلة مقابل محور إيران وفقا لنتنياهو، وتوريط أطراف دولية وحصريا الولايات المتحدة في حرب اقليمية، كما يحدث مع التحالف لمواجهة الحوثيين في البحر الأحمر، والمساعي لتدويل الوضع على الجبهة الشمالية مقابل حزب الله والحكومة اللبنانية. ويعتبر نتنياهو أنه إذا كان هدف حزب الله كما الحوثيين هو إشغال الجهد الحربي الاسرائيلي وإسناد غزة، فإن ما تقوم به اسرائيل حاليا هو مسعى لإشغال الجهود الدولية في هاتين الجبهتين وبعيدا عن غزة، وهي جزء من المواجهة الاستراتيجية غير المحسومة بعد، والتي لم تغير من جوهر قواعد اللعبة والردع المتبادل خاصة على الحدود مع لبنان. والتي تبقى إمكانية حرب شاملة ومفتوحة مستبعدة، ما لم تتدحرج الأمور نتيجة الى "خطأ في الحسابات" لدى أي طرف.

جدير التنويه الى ان اسرائيل قد وجدت طريقا التفافيا على باب المندب في البحر الاحمر وفقا لموقع واينت، وباتت السفن التجارية من شرق اسيا المتجهة لإسرائيل تستخدم موانئ كل من البحرين ودبي لتفريغ حمولاتها ونقلها براً إلى إسرائيل بدلا من توجيه السفن الى رأس الرجاء الصالح مما يضاعف تكاليف النقل وعليه الأسعار والتأمين. وهو مسار قد يتحوّل الى مسار ثابت لكونه يتوافق مع الممر المائي الأمريكي الكبير المقترح من الهند الى الخليج وبرا إلى إسرائيل ومنها بحرا إلى أوروبا، ويدخل ذلك ضمن التنافس التجاري العالمي على الممرات المائية بين الولايات المتحدة والصين.

بينما يذهب الموقف الأوروبي الرسمي بعيدا عن غايات إسرائيل ويتمحور في غزة وفي اليوم التالي للحرب ونحو فرض حل الدولتين دوليا رغم معارضة اسرائيل، وفي حين تصل ادارة بايدن الى قناعة بأن معظم جبهات الأشغال سوف تهدأ حين تبلغ الحرب على غزة نهايتها.
يستفيد نتنياهو وحكومته من الاختلاف في التوجهات داخل ادارة بايدن وفي الخارجية الأمريكية ومخابراتها بشأن الموقف من الحرب ومن حكومة اسرائيل، كما ويراهن على أن منسوب الضغط الأمريكي ينحو باتجاه التراجع بعد بدء المعركة الانتخابية الرئاسية الأمريكية. ويراهن على مواقف الحزب الجمهوري.

تصريحات بايدن الاخيرة بأن نتنياهو لا يعارض الدولة الفلسطينية، لها تتمتها، فالتصريح يشير إلى تعدد الصيغ بصدد "دولة فلسطينية" وهنا يفتح بايدن الباب أمام هامش مناورة واسع لدى نتنياهو بصدد الصيغ، وليس الاكتفاء بصيغة بايدن بصدد دولة منزوعة السلاح ولا تشكل خطرا على اسرائيل، بل نحو مسألة الحدود ومسالة المستوطنات وكل ما أطلق عليه في اتفاقيات اوسلو "قضايا الحل النهائي والدائم".

وتعني مواقف بايدن بأن الضغط سيكون حاليا على السلطة الفلسطينية، كي تكون الأمور مواتية لصيغة قد يقبل بها نتنياهو وحكومته، مقابل السعي الامريكي الى اعادة تطبيع اسرائيل اقليميا اعتمادا على المسار وحتى ليس على انجاز قيام دولة فلسطينية كما تنص المبادرة العربية.

خلاصة:
- الموقف الأمريكي بصدد رفض وقف إطلاق النار في غزة، وتعدد الصيغ للدولة الفلسطينية،هو تراجع أمريكي حتى عن المواقف التي اسمعتها إدارة بايدن في الاسابيع الاخيرة.

- تسعى ادارة بايدن الى تفعيل أدوات الضغط على الموقف الفلسطيني للتراجع عن حل الدولتين بالمفهوم الفلسطيني وحتى عن مطلب الاعتراف بدولة فلسطينية تحت الاحتلال.

- كسب نتنياهو نقاطا هامة بالنسبة له بعد "توضيحه" لموقفه الرافض لما نطق به بايدن، وذلك مقابل قاعدته الانتخابية التي يزداد منسوب الرهان عليها بعد فقدان الثقة بإمكانية تغيير الرأي العام الاسرائيلي الذي كما يبدو حسم أمره نحو معاقبة الليكود الحاكم ورئيسه.

- فكرة نتنياهو لإقامة حزب يميني جديد لإنقاذ حكم الليكود الحاكم تعود الى أن الاتجاه العام في الساحة الاسرائيلية هو نحو اليمين وحتى اليمين الدموي، وغياب مشروع سياسي بديل لدى المعارضة الإسرائيلية الرسمية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]