الأخوات والإخوة الأسرى في سجون الاحتلال (قد تصلكم الكلمة)،
أهالي قرية قنِّير المهجّرة- العائدة الكرام،
الشاعر المقاوم ناصر الشاويش،
الحضور الكريم،

قبل ساعات صُدمنا بنبأ استشهاد داوود الزبيدي، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته. وقبل يومين كنّا شهودًا على جيش صهيو- نازي يهاجم نعشًا لصحافيّة ما استكفوا باقتناصها في مخيّم جنين، شيرين أبو عاقلة، إنما طاردوها كالكلاب المسعورة نحو المثوى الأخير، ولست على يقين أن الكلاب المسعورة تفعل ما يفعلون! لكن من لديه شعب مثل شعبنا الفلسطيني، وشعوبنا العربيّة والإسلاميّة، يشتعل الأمل في فؤاده دومًا.

فها هو المقاوم الشاعر "ناصر الشاويش" يضيء لنا شمعة أمل أخرى باصداره ديوانه الجديد "أنا سيّد المعنى" ليعيدنا إلى بلدته المهجّرة قنِّير ولو للمحة على درب العودة، الذي نتوارث السير عليه نحو العودة الحتميّة، وهذه اللمحة نحو الحتميّة تتوهّج من خلف القضبان.

يحضرني في هذا المقام طيف قائد عسكري شاعر مقاوم، حارب جيوش الرّوم على التخوم دفاعًا عن أرض الوطن، وحين نذكر كلمة وطن نقصد أرض الحضارة العربية الإسلاميّة بمفهومها الأوسع الأشمل، والتي نفهمها هكذا أيضًا حين نتحدّث عن فلسطين، إنّه الشاعر الأمير أبو فراس الحمداني، ابن عم الأمير سيف الدولة، حاكم الإمارة التي شملت شمال سوريا وشمال العراق في القرن الرابع الهجري، نقطة الضوء في الحضيض السياسي الدويلاتي كالذي نحياه اليوم. وقد أُسر شاعرنا الحمداني على يد الرّوم، فقرض وكتب الشعر، فكان الأرقى في شعره ما نظمه من قصائد خلف القضبان، وما يُعرف لدى الدّارسين ب"الرّوميّات"، لأنه نظمها في الأسر لدى الرّوم. ونشير أنّ الرّوم الذين حاربهم وقاومهم بشراسة هم أخواله، لكن في معركة الدفاع عن الوطن لا صوت يعلو على صوت الهويّة والانتماء.

إنّ أحدى هذه القصائد، وربما أجملها، قصيدة "أراك عصيّ الدّمع" السياسيّة بامتياز، والتي اعتبرها كُثرٌ أنّها غزليّة، خصوصًا بعد أن غنّتها كوكب الشرق أم كلثوم، إلّا أنّها كما قلت سياسيّة بامتياز، باسلوب فنّي متميّز، يحوي أجمل التصاوير والمجازات والتشابيه واللّمح، فخُلِّدت في الأرض، والشعر أرقى البيان الدنيوي، وليس صدفة أنّ شعر المقاومة كان طليعيًا في شقّ طريقه قبل سائر الفنون في معركة المقاومة في فلسطين.

المقاوم يقاوم بما أوتي، والكلمة امتداد لما سبقها ومحفّزة محرّضة لما بعدها. وكلّما ضاقت الجدران اتّسعت مساحة الفكر والقلب لمن استخدم سلاح الكلمة والوعي، فلا غنىً لهذا عن ذاك، ولا لذاك عن هذا. فسقوط الواحدة تُسقِط البوصلة عن الأخرى، وتنهار الكرامة ويضيع الأمل.

شكرًا لك أيها الشاعر وسيّد المعنى ناصر الشاويش على إضافتك هذا الديوان الشعري إلى مكتبتنا ووعينا وقلوبنا، واسمحوا لي أن أقرأ من ديوانه مطلع قصيدته "دموع السماء":
"ألا يا بيت مقدسنا
عليك وانت تُغتصب اغتصابْ

على عرب ينام في سبات
وأقصاهم يُدَنَّس والكتابْ

فأين العُرب من قالوا بأنّ
العرب للاسلام تنتسب انتسابْ

ومسرى المصطفى بيد الأعادي
يهود، كاد أن يمسي خرابْ

ينادي العربَ من خطر وشيك
ولكن، لا جواب في الجوابْ"
فما يقوم به الشعراء وفرسان الكلمة مقاومةٌ، حينما يتناغم السيف مع القلم، وروح المقاومة المستندة إلى الوعي والإدراك العميقين أشدّ بأسًا وأبعد أثرًا.

تحيّة إلى كلّ الأسرى القابعين خلف القضبان في سجون الاحتلال، فهذا الظلام زائل لا محالة، كما أنّ العودة إلى بلداتنا المهجّرة وإلى فلسطيننا حتميّة.
الحريّة لسجناء الحريّة
عاش الأقصى حرًّا
عاشت القدس حرّة
عاشت فلسطين لأهلها..

*هذه الكلمة ألقيت على أنقاض قرية قنّير المهجّرة في الذكرى ال74 للنكبة، يوم السبت 15.5.2022 حيث تم إشهار الديوان الرابع للأسير ناصر جمال موسى الشاويش الذي يمضي محكوميّته في سجون الإحتلال "الإسرائيلي!" منذ عشرين عامًا من مجمل أربعة مؤبّدات حُكِم بها.
*ناصر الشاويش: من مواليد مخيّم الفارعة، طوباس، عام 1975. ابن لعائلة تهجّرت عام النكبة من قرية قنِّير. حصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة القدس (ابو ديس). ثم حصل على شهادة الماجستير في الدراسات الإسرائيليّة من نفس الجامعة. نشرت له العديد من القصائد والمقالات السياسيّة في صحيفة القدس وغيرها من الصحف والمجلّات الفلسطينيّة. وله ثلاثة دواوين شعرية مطبوعة: "طقوس تمّوزيّة" و"للقيد ذاكرة وخنجر" و"ذاكرة البنفسج".
*زاهر بولس: شاعر وكاتب فلسطيني من النّاصرة، عضو الأمانة العامّة لاتحاد الكتّاب الفلسطينيين- الكرمل 48، ورئيس اللجنة الإعلاميّة للاتحاد.


 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]