في الحقيقة ترددت كثيرا في الرد على كاتب مقال "إسرائيل ضد أم الفحم" عبد عزب في صحيفة "هآرتس" من يوم الاثنين الأخير 27.8.2018، وذلك لأنني أعتقد أننا نعيش في زمن ارتقى فيه الكتاب ومن يعتبرون أنفسهم من المثقفين إلى مستوى من يكتبون لهم، وأصبحوا يخاطبون الناس وفق مستوى إدراك القراء، وليس دون ذلك، ولا وفق مستوى تفكير الكاتب، الذي يكون أحيانا دون مستوى الإدراك الجماعي للشعب، ودون مستوى الخطاب العام للمجتمع الذي بات، أكثر من أي وقت مضى، عالي الإدراك عارفا بدهاليز السياسة ومقاصد الكتاب.
نحن ندرك أن الناس تختلف في المبدأ أو النهج أو الأسلوب، وهذا صحي وطبيعي ومشروع، وإلا لكان الناس أمة واحدة. وقد عبر المولى جل شأنه عن ذلك أصدق تعبير في الآية الكريمة: }ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين{ لكن بين الاختلاف ونقاش الاختلاف، الذي هو مشروع، وبين الاتهام والتخوين والكذب هناك مساحات واسعة شاسعة يرفضها كل ذي منطق سليم أو عقل أريب.

ليست لدي مشكلة في أن يكون الدكتور عبد اللطيف عزب شيوعيا أو مؤيدا للشيوعية أو يحمل الفكر الشيوعي أو مقربا أو إسرائيليَّ النهج والأسلوب والحياة –فليكن ما يشاء- فهذ شأنه الخاص، ولست هنا بصدد نقاشه في هذا الشأن بتاتا، ولا حتى نقاشه حول صفقة الأسلحة التشيكية التي سيّرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي في العام 1948، وفي ذلك جاء في مقال تحقيقي نشره موقع عرب 48 يوم 16.5.2016 ما يلي: ويعترف دافيد بن غوريون أن الجيش الإسرائيلي تمكن من الانتصار بفضل هذه المساعدات، والتي اشتملت على 50 ألف بندقية تشيكية (ظل يستخدمها الجيش مدة 30 عاماً) و 6000 رشاش و 90 مليون رصاصة و 91 طائرة حربية، علاوة على تدريب وتأهيل طيارين إسرائيليين لقيادة واستخدام هذه الطائرات!!


ويشير التحقيق- على سبيل المثال- إلى أن الطائرات الحربية التشيكية هي التي أوقفت تقدم الجيش المصري قرب مدينة أشدود (أسدود)!
كما يشير التحقيق إلى أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي كان له دور كبير في التوصل إلى هذه الصفقة التي ساهمت في حسم مجريات الحرب لصالح قيام إسرائيل. وبحسب التقرير فقد عمل عدد من قادة الحزب الشيوعي على خلق اتصال بين الوكالة اليهودية وبين الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا، الأمر الذي مهد الطريق للتوصل إلى إبرام هذه الصفقة، في ظل فرض المقاطعة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا على بيع الأسلحة لإسرائيل"!
لست بصدد نقاش كل ذلك بتاتا، فهو من الماضي المؤلم الذي ساهم في وقوع النكبة بكل آلامها على شعبنا الفلسطيني، وساهم في عشرات المجازر التي أوقعتها هذه الأسلحة على أجدادنا وآبائنا، وساهم في تهجير 90% من أبناء شعبنا الفلسطيني إلى مخيمات اللجوء والشتات ووو...
لكن أن يتجرأ الدكتور عبد اللطيف عزب - وهو على فكرة- ابن قرية عارة وليس ابن مدينة أم الفحم، ولا يعيش هواءها وأجواءها وعلاقات أهلها الاجتماعية والسياسية- أن يتجرأ ويكتب في صحيفة "هآرتس" الصادرة يوم الأثنين الأخير 27.8.2018 ما يلي: "التطرف في أم الفحم أكثر بكثير مما وصف يسرائيل هرئيل. وقد تطرقت لذلك في الماضي، فالذي نراه في جنازات "الشهداء"، والذي نسمعه في الخطب في المساجد يعتبر ظلا شاحبا من الكراهية تجاه كل من هو ليس من الحركة الإسلامية، بمن في ذلك العلمانيون من أمثالي، وتجاه الأقليات الدرزية والمسيحية والشركسية...".
بعد أن كان للحزب الشيوعي الإسرائيلي الدور الكبير في حسم المعركة في العام 1948 لصالح إقامة إسرائيل، كما اعترف بذلك دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، يقول الدكتور عبد اللطيف عزب في معرض مقاله: "وعندما لم يكسر كل ذلك إرادة السكان..... أقدمت دولة إسرائيل على خطوة كتلك التي تستعملها أنظمة القمع الامبريالية الغربية، وتفشل بها المرة تلو الأخرى، وهي خلق عدو داخلي، ومثال ذلك كان إقامة حماس في المناطق المحتلة كحركة دينية إرهابية وظيفتها إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، وفي أم الفحم سيأتي اليوم الذي تعترف فيه إسرائيل بإقامة الحركة الإسلامية كما اعترفت بإقامة حماس من أجل ضرب "حداش" - أي الحزب الشيوعي الاسرائيلي- التي كانت في حينه في أوج قوتها"
لا أريد أن أصدق أن الدكتور عبد اللطيف عزب، الذي درَّس في أم الفحم وتلقى راتبه في حينه من الحركة الإسلامية المحظورة – اليوم- إسرائيليا، بعد إذ عجزت بلدية الجبهة عن دفع راتبه، يريد أن يقول إن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا وأهالي أم الفحم الذين انتخبوها في تلك الفترة هم من صناعة "الشاباك"- المخابرات الإسرائيلية.
والدكتور لا ينكر تلقيه هذا الراتب بل يقول لاحقا: "في السنة الدراسية 1986/7 درّست في ثانوية أم الفحم بوظيفة جزئية، وخلال ستة أشهر متواصلة لم نتلق رواتبنا، وكانت البلدية على شفا الإفلاس، وللعجب اقترحت لجنة المعلمين التي كان يقودها العملاء ومؤيدو الحركة الإسلامية أن نأخذ رواتبنا من الحركة الإسلامية، وهذا ما كان بالضبط، ولاحقا أقيم التجمع الوطني الديموقراطي، وهي حركة "علمانية" ولديها نفس الأهداف .....والاستعراض الذي يقوم به رائد صلاح وحنين زعبي هو ثمرة تخطيط صارم يتم في الغرف المظلمة وبدون كاميرات ..".
من البداية قلت إن من حق الدكتور عزب أن يعتقد ما يشاء، وأن يكون ما يشاء، وأن يقول ما يشاء ما دام قوله في إطار المعقول والصحيح، ولكن أن يتعدى ذلك إلى مساحات مظلمة وإقصائية واتهامية وتآمرية وتخوينية وغير صحيحة لشرفاء الوطن والبلاد فهذا ليس من حقه أبدا.
وعليه أن يفسر كيف سمح لنفسه بتخوين زملائه في ثانوية أم الفحم في تلك الفترة؟ أليس من العيب أن يصفهم بهذا الوصف وهم ليسوا كذلك، وهم الذين خرَّجوا
أجيالا من الأطباء والمهندسين والمحامين والقياديين...؟
وعليه أن يفسر كيف سمح لنفسه أن يرمي من ضحّى وقدم له ولسائر المعلمين الأموال لينقذهم مما كانوا يعانون؟ وكيف سمح لنفسه أن يسب من انتشله في فترة الضيق؟
وعليه أن يفسر لماذا مَنْ يتهمهم بكل هذه التهم التخوينية حظرتهم الحكومة الإسرائيلية ، وحظرت نشاطهم، بينما من يدافع عنهم وهم الذين يدعون المجتمع العربي في الداخل للانخراط في الأسرلة التي يرميها على من يتهمهم ليسوا كذلك، ونحن على فكرة لا نتمنى لهم ذلك، ونعتقد أنهم إنما يعتقدون أنهم في هذا الأسلوب يخدمون شعبهم، لنا نقاش طويل معهم لكننا لا نخوّن ولا نتهم.
وأخيرا لماذا يحرض الدكتور عزب الحكومة الإسرائيلية وأذرعها الأمنية على أم الفحم بهذا الكلام المرفوض الذي يقول فيه إن التطرف في أم الفحم أكثر بكثير ... ويضرب على ذلك مثال جنازات الشهداء؟ انظر أعلاه. وهل يطالب الدكتور عزب عبر تحريضه على كل أم الفحم بعقابها جماعيا؟ ألم يسر في جنازة الشهداء ككل الجنازات في أم الفحم كل الطيف السياسي والاجتماعي؟ أم أنه ينضم بهذا التحريض إلى جوقة اليمين المتطرف؟
يا دكتور عزب هذه أم الفحم التي سقتك من مائها يوم كنت ظمآنا. أليس عيبا أن ترد لها هذا الماء سما وتحريضا؟
أم الفحم التي نحب لم يتمكن منها كهانا ولا أتباعه، ولن يتمكن منها كل من يحرض عليها.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]