أفاقت اللّغة العربيّة قبل أيّام مقصوصة الضّفائر مرميّة على قارعة الطّريق، وقد وَجدت في جيبها رسالة باسم الأكثريّة كُتب فيها: "إنّنا نبشّرك بأنّه قد تقرّر تجريدك من الرّتبة الرّسميّة التي تحملينها وترحيلك عن الوطن الحبيب الذي له لغة واحدة هي اللّغة العبريّة. تُلِيَ الحكم وأُفهِمَ علنًا".

إنّ هذه الرّسالة التي وُجّهت إلى اللّغة العربيّة ضمن قانون القوميّة الذي أجيز مؤخّرًا وُجّهت في الحقيقة إلى أبنائها. إنّها رسالة المتوجّس الذي يريد أن يجاهر بمستند رسميّ أنّه صاحب السّيادة، والسّلطة، والسّلطان، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة، فلا يريد أن يسمع صوتًا إلّا صوته ولا لغة إلّا لغته. إنّها بلاغ واضح إلى المواطنين العرب، الذين تبلغ نسبتهم نحو 21% من المواطنين في الدّولة، أنّ لغتكم لا يمكن أن تكون مع اللّغة العبريّة في نفس المرتبة، وأنّ إدراج هذه الهرميّة بين اللّغتين يعني في الحقيقة إدراج الهرميّة بين المواطنين أنفسهم. هكذا جاء في القانون المذكور أنّ للّغة العربيّة "مكانة خاصّة"، ولكنّها الخصوصيّة بمعناها السّلبيّ، خصوصيّة المختلف، والشّاذّ، والخارج عن القاعدة.
على أيّ حال، لم تُعتمَد اللّغة العربيّة في يوم من الأيّام في مرافق الدولة وأجهزتها ومعاملاتها إلّا في بعض الحالات. حتّى اللّافتات المكتوبة باللّغة العربيّة تُشعِر النّاظر عامّةً بأنّها مكتوبة من باب "رفع الكلفة"، بل إنّها تبرهن على مدى الاستخفاف بهذه اللّغة لما فيها من أخطاء تُعدّ ولا تُحصى. ولكنّ الإقرار برسميّة اللّغة العربيّة، ولو نظريًّا، كان يترك أثرًا طيّبًا في نفس المواطن العربيّ ويبقي على فسحة من الأمل.
ومن المفارقات المؤلمة أنّ اللّغة التي تزرع الجسور بين الضّفاف، وتجمع بين الإنسان وأخيه الإنسان، أصبحت أداة للتّفرقة والإقصاء والعنصريّة. لو نظرنا إلى حالة اللّغات المستعملة في سويسرا مثلًا لوجدنا هوّة كبيرة بين النّظرة إلى لغة الآخر هناك والنّظرة إلى لغة الآخر في هذه البلاد. فالمتحدّثون بالألمانيّة في سويسرا يتعلّمون الفرنسيّة، والمتحدّثون بالفرنسيّة يتعلّمون الألمانيّة، حتّى إنّ الدّولة قد أقرّت بأن تكون الألمانيّة، والفرنسيّة، والإيطاليّة، والرّومانشيّة اللّغات الأربع الرّسميّة في الدّولة من باب الاحترام والمساواة بين السّكّان كافّة. فما المانع في الاعتراف باللّغة العربيّة لغة رسميّة في البلاد، يدرسها جميع المواطنين وتستعمل في مختلف المجالات؟! هذا السّؤال المهمّ الذي تتشعّب الإجابة عنه، ولكنّ المبادرة إلى عدم الاعتراف تعني تغييب اللّغة وقطع حبل المشيمة بين المواطن العربيّ وهوّيّته.

اللّغة العربيّة ليست أحرفًا وكلمات. إنّها كياني، وهوّيّتي، وجذوري، وحارتي، وقريتي، وشعبي، وصوت جدّي وجدّتي النّازف من أغصان الزّيتون الذي أمضي مع عائلتي لقطفه كلّ عام في الجليل الحبيب. إنّها شعري، وقصائدي، وأغنياتي، وتراثي. إنّها تاريخي العريق الممتدّ إلى أجدادي في هذا الوطن السّاكن في الأعماق، ومبعث عنفواني وفخاري أمام التّركة الأدبيّة العظيمة التي ورثتها عن امرئ القيس وأبي تمّام والمتنبّي. 

كلّما وقفت أمام المنبر في أمسية من أمسياتي الشّعريّة في القدس، وشفاعمرو، وحيفا وغيرها، شعرت بالسّعادة والفخر العظيم بكلّ الذين يتركون بيوتهم ساعات ويأتون لسماع قصيدة. إنّها الغريزة والرّغبة المشبوبة لدى الإنسان العربيّ من أيّام سوق عكاظ إلى يومنا هذا في حبّه للكلمة، والشّعر، واللّغة العربيّة السّاحرة. إنّه مسحور بلغته، وبيانها، وبلاغتها، ومفرداتها، يتنفّسها من رئتيه، وتجري على لسانه كما تسري كريّات الدّم في عروقه، ولا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تفكّ هذا السّحر، أو أن تجعل الطّفل ينسى الحليب الذي رضعه من ثدي أمّه.
ولكنّني إلى جانب ما يتعلّق برسميّة اللّغة، أدرك المستوى المتردّي والبَرْح العصيب الذي تلقاه اللّغة العربيّة لأسباب كثيرة منها الازدواج اللّغويّ (استعمال المحكيّة والفصحى)، وقلّة القراءة، واستحواذ العبريّة على ألسن المواطنين العرب وأثرها في تلقائيّة التّفكير باللّغة العربيّة وفي تركيبها اللّغويّ الطّبيعيّ. وقد قرأت مؤخّرًا دراسة بارعة ومستفيضة للبروفسور حسيب شحادة تناول فيها المحنة التي تمرّ بها اللّغة العربيّة.
ولا شكّ أنّنا يجب أن نتحمّل مسؤوليّة كبيرة في هذا الشّأن. إنّ الكثير من الطّلّاب في المدارس العربيّة يستصعبون فهم قواعد اللّغة العربيّة إلى درجة النّفور منها، والمكتبة العربيّة تزخر بآلاف الكتب عن الفاعل والمفعول والتّمييز والحال وغيرها، ولكنّها تقوم على التّكرار وذكر نفس الأمثلة تقريبًا التي ذُكرت في المؤلّفات التي ظهرت قبل ألف عام، وهو ممّا يدلّ على الجمود الفكريّ، وقلّة الإبداع، وإجادة فنّ الثّرثرة. هذا إلى أنّ الشّهادة الأكاديميّة التي حصل عليها كثير من مدرّسي اللّغة العربيّة لا تشهد حتمًا على كفاءتهم لتدريسها. طلابهم يُجلَدون جلدًا بسياط التّلقين والتّلقيم، حتى صاروا ببغاوات وآلات تسجيل يردّدون ما يقال ثمّ ينسون بعد حين. إنّ رشّ الماء على وجه اللّغة العربيّة وتهوية مخدعها وصالات قصرها ومسح الغبار عن أوانيها وكراسيها من أهمّ ما يتعيّن عمله في العصر الحديث لإعلاء شأنها. لقد انفتح العالم بعضه على بعض، وصارت القارّة الواحدة تشرب القهوة مع صاحبتها، وأصبح الانتقال في العالم كنزهة مدهشة في قرية أو مدينة. كذلك يجب أن نقدّم نظرة جديدة إلى اللّغة العربيّة تقوم على تنمية مهارة فهم المقروء والتّحليل، وتشجيع الطّالب على فتح آفاقه ومنحه الثّقة بأنّ رأيه في النّصّ لا يقلّ أهمّيّة عن رأي الأستاذ نفسه.
أمام المبادر المتحرّك الذي يجرّد اللّغة العربيّة من صفتها الرّسميّة قانونيًّا، وأمام الأوصاب الكثيرة التي تُطوّح بها، أعتقد أنّنا نسيء جدًّا إلى أنفسنا إذا لم نحرّك ساكنًا ولم نعمل بحزم وجدّ للمحافظة على لغتنا، وقد قيل قديمًا "حَرِّكِ القَدَرَ يتحرّكْ". إنّ اللّغة العربيّة التي تعاني الرّوماتيزم في مفاصلها والاحتشاء في عضلة قلبها تحتاج إلى أطبّاء أكفاء يداوونها وأساتذة متضلّعين منها يذودون عنها ويقضون حقوقها، وإلّا فعلى اللّغة العربيّة وأبنائها السّلام.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]