في نقاش جرى بين مندوبة الولايات المتحدة السابقة في الأمم المتحدة، قبل قرابة ثلاثة عقود سابقة، مع مندوبي كل من سورية والأردن على هامش أحد اجتماعات مجلس الأمن، تنقل هيئة الإذاعة البريطانية قولها إن المندوبَين العربيَّين فسّرا أثناء النقاش الوقوف الدائم والمطلق من قبل كل الإدارات الأميركية إلى جانب إسرائيل، إلى طبيعة رؤية «المستوطنين الأميركيين لأصحاب الأرض الأميركية الأصليين الهنود الحمر» قالت جين كيريا تريلث إنها تفهمت هذا التفسير، ذلك أن الأميركان لا يمكن أن يفهموا أية حقوق، كونهم مستوطنين، لأصحاب الأرض الأصليين في أميركا، وهذا جزء أصيل من الثقافة الأميركية.

تذكرت هذا النقاش، وأنا أتابع سلسلة الاجتماعات التي يقوم بها المبعوثون الأميركيون إلى المنطقة، المستشار الخاص للرئيس ترامب كوشنر والمندوب الأميركي الخاص للسلام غرينبلات وسفير أميركا لدى إسرائيل فريدمان وسفير إسرائيل لدى أميركا ديرمر، مرتين خلال أيام قليلة مع حوالي ثماني ساعات مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ورغم أنني تابعت التقارير الصحافية التي غطت هذه الاجتماعات وما تناولته من قضايا تتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي وفي الجوهر منه الملف الفلسطيني وتحديداً ملف قطاع غزة، رغم ذلك، «تخيّلت» كيف يتكاتف ويتعاضد المستوطنون في كلا الاتجاهين في سبيل التنكر لحقوق سكان البلاد الأصليين، وحيث تتملكهم سطوة السيطرة والقهر وتزوير حقائق التاريخ وإعادة صياغته بما يكفل لهم ردع السكان الأصليين أصحاب الأرض عن المطالبة بحقوقهم المسلوبة، واعتبرت في اطار هذا التخيل، أن كل المناقشات تجري في سياق هذه الفكرة، وأن كافة التفاصيل المتعلقة بالسياسات والمواقف تنطلق من جوهرية هذه الفكرة وهذه الثقافة الاستيطانية.
وذهبت في «المتخيّل» بعيداً بعض الشيء، وتذكّرت إحدى الوسائل التي قام بها المستوطنون البيض في أميركا لإبادة السكان الأصليين والذين يطلق عليهم الهنود الحمر، ذلك أن هؤلاء السكان الأصليين كانوا يعتمدون في غذائهم وبشكل أساسي من البروتين على الثور الأميركي أو الجاموس الأميركي والذي يطلق البعض عليه «التايسون» الأميركي، فإضافة إلى الحروب التي قام بها اليانكي ضد قبائل السكان الأصليين، أصدرت الإدارة الأميركية مع بداية القرن التاسع عشر، قراراً بتسهيل قيام «البيض» بصيد مستمر لهذا «التايسون» وشجعت ذلك من خلال دوريات متواصلة لصيده، في محاولة من قبل المستوطنين البيض لإنقاص عدد «التايسون»، عمليات الصيد المبتكرة وبأسلحة متطورة مقارنة بما يمتلكه السكان الأصليون، قلصت إلى حد كبير إمكانية صيد «الهنود الحمر» للتايسون، أما ما يتم صيده من قبل المستوطنين البيض، فقد كان يترك ليتعفن وللوحوش الضارية، كل ذلك كان شكلاً من أشكال «الحصار» الذي فرضه المستوطنون البيض على السكان، المواطنين أصحاب الأرض، ما أدى، إضافة إلى عوامل أخرى، إلى اندثار السكان الأصليين، على يد المستوطنين الذين كانوا قد وصلوا إلى الأراضي الأميركية من كل أوروبا، وتحديداً من قبل بريطانيا، في وضع مشابه إلى حد لا يمكن تجاهله، كما لا يمكن استنساخه عن الحالة الاستيطانية لأرض الفلسطينيين من قبل الدولة العبرية!

ومن «المتخيّل» إلى «الواقع»، فقد قرأت مقالاً لـ «دنيس روس» المستشار في معهد واشنطن، ومبعوث السلام الأميركي، أثناء ولايتي الرئيس بوش الأب وكلينتون وفي صحيفة «الشرق الأوسط» بعنوان «هل يتغير الموقف الفلسطيني هذه المرة؟» حيث يقول ما مفاده، إن العرب كانوا يقولون دائماً إنهم سيوافقون على ما يوافق عليه الفلسطينيون، لكن حدث أن الفلسطينيين لم يتفقوا أو يتوافقوا، وضاعت الفرص من بين أيديهم؟ هل ممكن أن تتغير الأمور هذه المرة في ظل الضعف والانقسام بين الفلسطينيين ورفض «عباس» لإدارة ترامب.. ثم يضيف روس قائلاً: من المحتمل أن يستطيع القادة العرب اليوم خدمة المصالح الفلسطينية بالخروج إلى العلن ومساعدة الفلسطينيين، حتى لا يخسروا الفرصة إن وجدت، ذلك أن الرفض الفلسطيني لم يساعد الفلسطينيين، وقد يكون أفضل دعم يقدمه العرب لتلك القضية اليوم أن يكونوا صرحاء مع الفلسطينيين في العلن كما هم في السرّ.. انتهى كلام السيد دنيس روس، ومعه ينتهي تنقلي بين ما هو متخيّل وما هو واقع!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]