لم تترك الضربة العسكرية التي وجهتها قوى العدوان الثلاثي على سورية آثاراً جدية على الخريطة العسكرية، بينما ظلّت تداعياتها السياسية هي الأكثر بروزاً كنتيجة لهذا العدوان، وما تشهده القارة الأوروبية العجوز من احتجاجات برلمانية وإعلامية عمّت الشارع الأوروبي ما هو إلاّ أحد مظاهر هذه التداعيات، فالأمر لم يقتصر على استجوابات برلمانية في كل من باريس ولندن، ولا انتقادات من داخل وخارج الحزب الجمهوري ضد ترامب، بل ان هناك انزياحات حول التحالفات التي قامت قبل هذا العدوان، جملة من المتغيرات والتقاطعات والاختراقات باتت المشهد الذي يمكن ملاحظته، وهي مرشحة إلى مزيد من التفاعلات والتشكيلات التحالفية الجديدة كنتيجة لهذا العدوان.

ولعلّ أهم متغير في هذا السياق، يتعلق بطبيعة الموقف الفرنسي في ظل رئاسة ايمانويل ماكرون، فقد ظلت فرنسا خلال العقود الأخيرة في اطار تحالف تقليدي مع ألمانيا، لرسم سياسات الاتحاد الأوروبي، وظلت بعيدة عن المؤثرات السياسية الأميركية التي كانت تخضع السياسة البريطانية لها، ولعب هذا التحالف دوراً مؤثراً في اتخاذ القرارات على صعيد السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، وأثمر مواقف بالغة الأهمية وبحيث شكلت القيادة الحقيقية للاتحاد، التي كانت تتصدى بشكل عام للانزياح البريطاني نحو واشنطن.

وهنا، يمكن القول إن إحدى أهم نتائج العدوان الثلاثي على سورية، تسجيل انزياح فرنسا عن تحالفها التقليدي مع ألمانيا، هذه الأخيرة سجلت سياسة مختلفة إزاء الأزمة السورية، بما في ذلك العدوان الأخير، عن كل أطراف التحالف الثلاثي، فهي لم تشارك بها، كما أنها عمدت إلى تمييز موقفها الذي كان أقرب إلى ضرورة التعامل بمرونة وبعد التحقيقات بشأن المزاعم حول الاستخدام السوري للسلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية.

حاول ماكرون أن يغطي تورطه في العدوان، بتأكيد دوره كفاعل سياسي مؤثر على السياسة الأميركية عندما ادعى بأنه أقنع ترامب بضرورة بقاء الجيش الأميركي في سورية، وهو الأمر الذي نفته كل تصريحات القيادات الأميركية التي أكدت على أن سياسة أميركا لم تتغير إزاء تواجد قواتها على الأراضي السورية، ثم انتقل ماكرون إلى مجال آخر، لدعم موقفه، مدعياً أن العدوان الثلاثي أدى إلى فصم العلاقة بين تركيا وروسيا، الأمر الذي اضطر معه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى الرد قائلاً إن علاقات بلاده مع روسيا ثابتة وقوية على كافة الأصعدة.

وبالعودة إلى المانيا، التي لم تشارك في المباحثات حول توجيه ضربة إلى سورية، ولا إلى الانضمام بشكل كامل والتأييد المطلق للعدوان، فهي رغم ذلك، ولذلك، باتت أكثر حضوراً ودوراً رغم انزياح الحليف الفرنسي التقليدي، فقد اقترح زعيم اليسار الأوروبي غريغور جيسي أن تتولى الحكومة الألمانية «دور وسيط محايد» في النزاع السوري، حسب قوله، وذلك بصفتها شريكا في حلف شمال الأطلسي، وأن تتصرف ألمانيا بحيادية ودون انحياز إلى طرف دون الآخر والاتصال بكافة الأطراف المعنية واختيار مكان مناسب ومحايد لإجراء مفاوضات تفضي إلى حل النزاع، ورغم أن هذا الاقتراح يتجاوز مفاوضات جنيف والأستانة، وقد لا يلقى صدى من الناحية العملية في الظروف الراهنة، إلاّ أنه يشير إلى «حيادية» ألمانيا من قبل رئيس حزب مشارك في الائتلاف الحكومي الألماني وزعيم لليسار الأوروبي، ما يشير إلى الدور الذي من الممكن أن تحتله ألمانيا، كدولة أكثر استقلالاً في قراراتها عن الولايات المتحدة تحديداً، على صعيد الأزمة السورية على وجه الخصوص والأزمات الدولية بصفة عامة.
وبينما اتفقت دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرون على أن الهجوم على دوما غير مقبول ويجب ألاّ يمرّ دون عقاب (!) لم يتطرق البيان الصادر عن اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في بروكسل عقب العدوان الثلاثي على سورية إلى تأييد العدوان بل اكتفى بالقول «بضرورة محاسبة المسؤولين عن هذا الانتهاك للقانون الدولي» في اشارة الى انقسامات حادة، برز منها الموقف الإيطالي الأكثر تحفظاً على العدوان، في حين دعا وزير الخارجية البلجيكي إلى ضرورة إجراء حوار سياسي مع روسيا وايران لوقف التصعيد في سورية، بينما يشير وزير الخارجية الألماني إلى استحالة الوصول إلى أي حل للازمة السورية بدون روسيا، وكأنه بذلك يتبنى موقف رئيس بلاده فرانك فالتر شتاينماير، الذي دعا بدوره إلى التحذير من شيطنة روسيا، مشيراً إلى أن العزلة المتزايدة بين الغرب وروسيا يجب أن تستبدل بالحوار معها وتجنب تصوير روسيا وشعبها كأعداء.

لا ندّعي أن هذه التشققات على الساحة الأوروبية، وانزياح التحالفات التقليدية، تشكل تصدعاً كبيراً لكنها مع ذلك، تؤشر على أن العدوان الثلاثي لم يخلق جبهة موحّدة، بقدر ما خلق انقساماً حاداً إزاء عدوان أراد أصحابه أن يمنحوه صفة شمولية دولية فشلوا في تحقيقها!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]