من الواضح أن الضربة الأميركية على سورية لم تكن بحجم الضجة الإعلامية التي أثيرت حولها، ولا بحجم التهديدات التي سبقتها؛ فقد كانت التخوفات من أن تؤدي الضربة لإسقاط النظام، قبل التوافق على حل، أو إضعافه لدرجة تسمح بعودة التنظيمات المسلحة للمناطق التي أجليت عنها، وبالتالي تعميق الأزمة السورية، وإطالة أمد الحرب الأهلية، وتسعير نيرانها.. أو أن تجابه الضربة بردود فعل عسكرية من قبل روسيا وإيران، وبالتالي دخول المنطقة برمتها في أتون صراع دولي لا يمكن التنبؤ بمدياته..

وقد ظهر جليا أن هذا العدوان الثلاثي لم يكن الغرض منه إسقاط النظام؛ بل كان تدخلا في لحظة معينة من الاشتباك أرادت أميركا من خلاله التأكيد على أنها (وحلفاءها) العنصر الأهم في معادلات الصراع، وأن لا حل من دونها، وأن على روسيا أن تعي حدودها، وحجمها، وتلتزم بهما.. وهي أيضا رسالة لإيران بأن عليها أن تلزم حدودها.. وأن تلتزم بقواعد الاشتباك والتداخل، كما تم التوافق عليه سابقا في العراق.. كما أرادت أميركا أيضا تحجيم انتصارات الجيش السوري، خاصة بعد التقدم الكبير الذي أحرزه في مناطق متعددة من سورية، والذي أفضى إلى تحريرها، وإخراج التنظيمات المسلحة منها.
هذه ضربة محدودة، ربما تنقذ بعض ماء وجه ترامب، خاصة بعد تصاعد الانتقادات لشخصه وإدارته داخل أميركا (وخارجها)، وهي أتت كحل وسط بين تيار الصقور اليميني المتصهين الذي يريد ضربة أقوى، تقوض قوة النظام العسكرية، وتدمر قدراته الصاروخية (لحماية أمن إسرائيل، وضمان تفوقها)، وبين جنرالات البنتاغون الذين ما زالوا يفهمون قواعد اللعب في الشرق الأوسط، ويتفادون الدخول فيه بشكل مباشر، لاسيما بعد الانسحاب من العراق، والفشل في أفغانستان، ومع التلويح بتهديدات جدية من روسيا بإمكانية الرد.
وطبعاً، ومثل أي حرب، سيكون من بين الأهداف اختبار الأطراف المتصارعة مدى كفاءة وفاعلية أسلحتها الجديدة، ونجاعة منظومتها الدفاعية.. ولكن، هذه المرة جرى تنسيق مسبق للضربة، بل إن موعدها كان معروفا حتى لمتابعي الفيسبوك!
ومع ذلك، فإن هذا العدوان لن يؤدي إلى تغيير كبير في معادلات الصراع داخل سورية؛ إنما، على الأرجح سيؤدي لتعديل الوضع التفاوضي لصالح أميركا وحلفائها، وللتذكير بحدود الدور الروسي والإيراني، وإعادة ضبط إيقاع الصراع السوري، وفقا لما تم الاتفاق عليه في اجتماع فيينا، وحسب قرار مجلس الأمن 2254، واللقاء السداسي الذي عقد في فرنسا مطلع هذا العام وشارك فيه وزراء خارجية أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا بالإضافة للسعودية والأردن.
وطبعا، مع إدانتنا الكاملة لهذا العدوان السافر، إلا أن هذه الضربة قد تضع جميع الأطراف أمام حقيقة أنه آن الأوان لحل الأزمة السورية، وأن عليهم البدء جديا بوضع القاطرة على سكة الانتقال السياسي..
وكل من راهن على أميركا والحلف الأطلسي لإسقاط النظام (كما حدث في ليبيا) خاب أمله، وخاب مسعاه.. ومن اعتقد أن أميركا تأتي لنصرة المعارضة الضعيفة، أو لجلب الديمقراطية، أو للتخلص من الأنظمة المستبدة، إنما هو غارق في الوهم.. وتكفي نشرة أخبار واحدة عما يحدث في العراق، لمعرفة إلى أي مدى هؤلاء غارقون في الوهم.. فأميركا ليست جمعية خيرية، بل إنها، كما ثبت على مدى تاريخها الاستعماري، ديدنها مصالحها فقط، وبعقلية العربدة والكاوبوي.. وما مشاركة بريطانيا وفرنسا إلا للتأكيد على أن محور الشر الاستعماري جاهز وحاضر دوما في وجه أي محاولة لأي تغيير في قواعد النظام الدولي ومعادلاته السياسية.
وهذه الضربة، تعيد التأكيد على أن الصراع في سورية إنما هو صراع دولي على المصالح الحيوية للقوى الكبرى والأطراف الإقليمية.. لا رأي للسوريين في كل ما يجري، هم وحدهم من يدفع الثمن؛ فقد ذاقوا الويلات على يد النظام، ليس فقط من خلال البطش والقمع، إنما أيضا بفتح البلاد أمام التدخلات العسكرية الأجنبية (إيران وروسيا والميلشيات الطائفية وعصابات المرتزقة).
وكل ما سوقته أميركا وبريطانيا وفرنسا عن "السلاح الكيماوي"، ليس سوى كذبة مكشوفة، سبق لهذه الدول أن سوقت كذبة مماثلة حين أرادت العدوان على العراق (مزاعم أسلحة الدمار الشامل).. وحتى لو كان ذلك صحيحا، فما الفرق بين أن يُقتل السوريون بالكيماوي، أو بالبراميل المتفجرة، أو بالقصف الروسي، أو على أيدي العصابات الإرهابية والتنظيمات المسلحة؟ لماذا سكتت هذه الدول عن المجزرة الدموية التي تدخل عامها السابع؟
ومع ذلك، ورغم تحفظاتنا على ممارسات النظام القمعية، إلا أن الوقوف ضد العربدة الأميركية والأطلسية، ومع الدولة السورية وجيشها العربي، مسألة مبدأ، وموقف وطني عروبي..
وأخيراً، قبل مدة وجيزة استقال وزير بريطاني لتأخره عن موعد انعقاد البرلمان، وحينها تغنت بريطانيا بديمقراطيتها.. أما مشاركة القوات البريطانية دون الرجوع للبرلمان، وضد إرادة الشعب، فهذه أيضا ديمقراطية!
رغم أنف العدوان، ستظل سورية التي في خاطرنا قلعة العروبة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]