بقلم منصور عباس

رحل عالم الفيزياء ستيفن هوكينج، وأثار بموته حديثًا في اتجاهات متعددة، منها أنّه يمثل نموذجًا يُقتدى به في التّغلب على المرض الذي أقعده منذ سنوات شبابه المبكر، ولم يمنعه ذلك من الريادة العلميّة في الفيزياء الكونيّة، ومنها التّركيز على مواقفه الإنسانيّة والسياسيّة المحمودة في قضايا متعددة منها قضية فلسطين، ومنها انشغال البعض في قناعات الرجل الدينيّة واللادينيّة، فدعونا بداية نشكر لهذا الرجل مجهوداته العلميّة ومواقفه الإنسانيّة وتجربته الشخصيّة الفريدة. أمّا الرّحمة فبيد الله تعالى وقد قال ربنا " عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ "، ولا ينبغي الخلط بين مفهوم الرحمة، ومفهوم الاستغفار، ودلالاتهما العقَديّة.
لا شك أنّ تصريحات الرجل في السّنوات الأخيرة من حياته أعادت التّفكير في جدليّة العلم والإيمان، وأخذت حيزًا إعلاميًّا واسعًا لظرفيّة الرجل ومكانته العلميّة. تطور التّفكير اللادينيّ عند ستيفن هوكينغ كما سنرى في العقد الأخير من حياته تحديدًا بين عامي 2008 و2011، لاعتبارات ليست نابعة بالضّرورة من حقائق علميّة اكتشفها الرجل، وإنما لتصورات انْبَنت على فهمه لطبيعة العلم وماهيّة الدين. فكم من عالم فيزياء يوافقه الرأي في نظريات الفيزياء الكونيّة، ولا يشاركه قناعاته اللادينية او الإلحادية.
يقول ستيفن هوكينغ بأنّه "ليس متديناً بالمعنى التقليديّ" وأنّ "هناك اختلافًا جوهريًّا بين الدين الذي يقوم على السّلطة، والعلم الذي يقوم على الملاحظة والعقل، وسيفوز العلم لأنه أثبت نفسه"، في عام 2008 صرح قائلًا، "قد تكون القوانين قد أُقرَّت من قبل الله، ولكنَّ الله لا يتدخل لخرق القوانين". ويضيف أنّ "الكون محكوم بقوانين العلوم".
في عام 2011 أعلن هوكينج: "نحن أحرار في تصديق كل ما نريد، ومن وجهة نظري، إنّ أبسط تفسير هو أنّه لا يوجد إله. لا أحد خلق الكون، ولا أحد يوجه مصيرنا. هذا يقودني (كما يقول) إلى إدراك عميق: ربما لا يوجد سماء ولا حياة لاحقة. لدينا هذه الحياة لنقدِّر التّصميم الكبير للكون، ولهذا أنا ممتن للغاية".
في سبتمبر 2014 في مهرجان Starmus كمتحدث رئيسيّ أعلن هوكينغ نفسه مُلحدًا. وفي مقابلة مع صحيفة ليموند، قال: "قبل أن نفهم العلم، كان من الطبيعيّ أن نُصدّق أنّ الله خلق الكون. لكن العلم الآن يقدم تفسيرًا أكثر إقناعًا. ما قصدته بـ "نحن نعرف عقل الله"، هو أننا نعرف كل شيء يعرفه الله، إذا كان هناك إله. لا يوجد، أنا ملحد". نهاية الاقتباس.
هذه التصريحات المترجمة حرفيًّا تدل على أنّ الرجل لم يكن متدينًا بالمفهوم التقليديّ، ولكنّه كان مؤمنًا بوجود الله الذي -كما يبدو له-أقرَّ القوانين على حد تعبيره، ثم تركها تعمل لوحدها دون تدخل منه. ستيفن هوكينغ لاحظ انتظام الظواهر الكونيّة في قوانين ثابتة ومستمرة، فافترض أنّ الله لا يتدخل لخرق القوانين التي تحكم الكون، ثم استدار ليستنتج عدم وجود الله لأنه لا أثر له في خرق قوانين الطبيعة.
الأمر الآخر الجدير أنّ ستيفن هوكينغ افترض تناقضًا بين الدين والعلم في نظريّة المعرفة، فالعلم يكتسب بالتّجربة والملاحظة الحسيّة والأفكار العقليّة المجرَّدة، هكذا يُفسِّر الوجود ويكتشف القوانين التي تحكم الكون. بينما الدين في فهمه قائم على مصدر واحد آخر للمعرفة، ولعله يقصد سلطة النّص المقدس، الذي لم يعد صالحًا لتفسير الطبيعة ومعرفة القوانين، ويختم نحن نعرف كل شيء يعرفه الله، لذلك لا خالق لهذا الكون ولا يوجد إله يوجه مصيرنا فأنا ملحد كما يقول.
إذا أردنا أن نناقش قناعات ستيفن هوكينغ بشكل موضوعيّ، ونضع تحفظاتنا على تصوراته لمفهوم الدين وماهيته، يمكن أن نقول ما يلي:
أولًا: يقول ستيفن هوكينغ أنّ العلم يُقدِّم تفسيرًا أكثر إقناعًا من الدين في مسائل الكون، وكأن العلم والدين في حلبتي سباق. الدين عندنا هو معرفة "كلمة الله" والعلم هو معرفة "فعل الله"، ولكل طريقه المعرفيّ، كلمة الله تعرف بالوحي وفعل الله بالتّعقل والتّجربة. ولا يتصور عندنا إلّا أن يَتحِدا في الحقيقة لأنّهما من مشكاة واحدة. وأمّا ادّعاؤه بالعلم المطلق كأنه يعرف بالعلم ما يعلمه الله بذاته فادِّعاء داحض. هل يمكن أن يُفهِّمنا كيف انبنى هذا التّصميم الكبير للكون استنادًا الى الاحتمالية والمصادفة دون موجه ومدبِّر وهادي؟ وهل هنالك إجابة مقنعة لسؤال الوجود والعدم؟ القوانين الطبيعية تشرح تفاعلات الأشياء مع بعضها، فكيف ستشرح تفاعل العدم والوجود.
ثانيًا: لا يدعي أحد عارف بالدين أنّه الوسيلة لكشف الحقائق والقوانين الطبيعيّة، وإنما ندعي أنّه جاء لهداية النّاس إلى الايمان والتّوحيد والقيم والأخلاق والسّلوك. أمّا الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الكون فترشدنا الى المنهج المعرفيّ الذي يسلكه ستيفن هوكينغ وكل العلماء والباحثين في الطبيعة. ولا أبالغ إذا قلت إنّ أساس البحث العلمي الحديث بجناحيه التجريبي والعقلي، مشار إليه في عشرات الآيات والسّور، وهو جزء من التّكاليف الشرعيّة، ولو وسع المقام لجئت بها، فاكتفي منها بقول الله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" فأناط العلم بوسائله العقليّة والحسيّة. وبقوله " أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" وبقوله تعالى " وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا ".
ثالثًا: إنّ القوانين الطبيعيّة الحاكمة للكون والتي يستند إليها في نفي وجود الله، هي نفس أقدار الله وسننه الجارية في الكون والحياة والدّالة عليه وعلى قَيُّومِيَّته وحاكميَّته. هي مفاهيم نظريّة عقليّة مُجردة، تعبِّر عن علاقة سببيّة تحتاج إلى موجودات تعمل فيها، وتضبط انفعالاتها ومساراتها، نحو غايات مُحدّدة -في فهمنا الدينيّ-وليس بالصدفة والعشوائيّة والاعتباطيّة، بل بتدبير وهداية وحكمة. وأستدرك قول: "في فهمنا الدينيّ"، لأن أرباب العلم الطبيعيّ يرفضون الغائيّة في حركة الكون وتطوره ويكتفون بالسببيّة ومقتضياتها. قال تعالى "سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى" وقال: " إنّا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر" وقال " وخلق كل شيء فقدره تقديرًا".
رابعًا: القوانين الطبيعيّة لا تحكم الكون بذاتها، بل هي تعبير عن قيُّوميّة الله وحاكميّته للكون، يتجلى فيها علمه وقدرته وحكمته -لا كما يدعي أنّ الله خلق واستراح- وإلّا لكانت القوانين نفسها هي الله الخالق الباري المصور المقدِّر المدبِّر الهادي. وقد قال هذا بعض الفلاسفة أنّ الله كامن في الطبيعة وليس مفارقًا لها. أمّا القرآن فيقول أنّ ظواهر الكون من الخلق إلى الحوادث الطبيعيّة المستجدة، هي آيات ولكنها "آيات لقوم يعقلون"، فشطر الآية يُفهِمنا أنّ هذه الظواهر الكونيّة بقوانينها بحاجة الى تعقّل وتفكّر وتدبّر منّا حتى تقع دالة على خالقها ومبدعها، وهذا يستلزم أن تكون القوانين الطبيعيّة جارية مطَّردة لها ديمومة وثبات كما سيأتي، دون أن تكون هذه الخاصيّة نافية لوجود الله.
خامسًا: يقول ستيفن هوكينغ "إنّ الله لا يتدخل لخرق القوانين الطبيعيّة".
لا أعرف من أين أتى بهذا الحكم النهائيّ؟! هل استقرأ هوكينغ استقراء كاملًا كل الظواهر الكونّية خلال مليارات السّنين؟ هل أطلع على كل القوانين الطبيعيّة؟ حتى يجزم أنّها لم تُخرَق لمرة واحدة على الأقل. هل القوانين الطبيعية بهذه الإطلاقة أم أنها تخرق بعضها بعضا وتستدرك على بعضها.
لماذا لم يحصل ستيفن هوكينغ على جائزة نوبل للفيزياء؟ أليس لأنّ "قوانينه العلميّة" لم ترتق بعد الى مستوى الحقائق العلميّة الراسخة، وتحتاج الى تجارب إمبيرية لإثباتها.
سادسًا: للإجابة على السّؤال حول خرق القوانين الطبيعيّة، علينا أن نُميّز بين تسليمنا كمؤمنين، أنّ الله قادر على خرق القوانين التي أقرّها ابتداء - كما يقول هوكينغ - وبين السّؤال المشروع حقًا، هل حدث أن خرق الله هذه القوانين فعليًّا؟ وهل يحتاج أن يخرقها من أجل حفظ الكون وإظهار كماله وجماله وعلمه وقدرته.
والسّؤال المهم أيضًا ماذا ينبني على الإجابة بالنفي لنفي الخرق أو الإثبات لحدوث الخرق؟
إذا أجبنا بنفي الخرق سيقول هوكينغ: إذًا لا أثر لربكم في الكون فهو عدم، ولنذكر أنّه بناءً على هذه المقدمة استنتج هوكينغ أن لا إله خالق ومدبر في الكون. وإذا أجبنا بالإثبات فسيدعي جهلنا بأصول العلم ومقتضياته، ومخالفة الحقائق العلميّة، وبالنتيجة سيقول إنّ ما تعتقدونه كمؤمنين هو خرافات وأساطير الأولين.
سابعًا: إذا استقرأنا مئات الآيات في القرآن الكريم التي تلفت انتباهنا الى حقائق الكون وظواهر الطبيعة وتحولاتها وانفعالاتها الفيزيائيّة والكيميائيّة والبيولوجيّة، سنجدها تُقدَّم لنا، على أنّها آيات دالة على الخالق تدرك بوسائل المعرفة الحسيّة والعقليّة، وهذا يفترض أن لا سبيل الى استنباط القوانين بيقين وطمأنينة، الا أَنْ تطَّرد القوانين معبرة عن العلاقة السّببيّة التي جعلها الله مناسبة للحادث. منها مثلا الآيات (17-27) من سورة الروم وخواتيمها " إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" وقوله " إنّ في ذلك لآيات للعالمين" وقوله " إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون" وقوله "إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون" وغيرها كثير.
إنّ هذه الخواتيم للآيات القرآنية تستلزم أنّ قانون الطبيعة لازم لظواهره وحوادثه لا يخرق في حياتنا الدنيا، وإلّا ستضطرب أفهامنا وسنعجز عن إدراك آيات الله في الكون، ولن تكون هذه الآيات سبيلًا لمعرفة آثار رحمته وعلمه وحكمته وقدرته، وسيضيع المقصود، وقد وعدنا الله ببيان آياته ليتبين لنا الحق. لقد عبّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفهم عندما قال: " إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنّهما لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته". إنّ عدم خرق القوانين في رأينا ليس دليلًا على عدم وجود الله، بل هو دليل على كمال علمه وقدرته وحكمته وتقديره وتدبيره.
ثامنًا: إذا كان إمكان الخرق ممكنًا وحدوثه في الواقع منفيًّا كما أدّعي، فقد يسأل سائل كيف نفسر المعجزات الدّالة على صدق الأنبياء؟
نجيب على السّؤال بسؤال عن ماهيّة المعجزات، هل هي خرق لقوانين الطبيعة أو المحال العقلي؟ أم هي حوادث داخل منظومة القوانين الطبيعيّة والإمكان العقلي في ظروف وأحوال مختلفة؟ أم هي في الحقيقة خرق للعادة والمألوف؟
لو طلعت الشّمس من المغرب، هل سيدَّعي عالم فيزياء أنّ قانون الطبيعة خرق أم سيقول لنا أنّ اتجاه دوران الأرض قد انعكس وسيشرح لنا ما هي محصلات القوى التي عكست اتجاه الدوران.
إذا تكلمت الدّابة هل سيقول علماء الاحياء أنّ شيئًا خارقًا يحدث أم ستسعفهم نظرية التّطور لتفسير الظاهرة. إذا ارتفعت الشّمس فوق رؤوسنا ثم كوِّرت، هل سيقول العلماء إنّ معجزة تقع أم سينسبون ذلك الى ظاهرة موت النجوم كما السوبرنوفا.
هل يستطيع عالم الفيزياء ستيفن هوكينغ أن يؤكد لنا أنّ قانون نيوتن للجاذبيّة وقانون النسبيّة الخاصّة والنسبيّة العامة تعمل داخل مجال الأرض أو الفضاء أو في الثقوب السوداء بنفس الخاصيّة والكيفيّة، أم سيقول لنا أنّ مجالات الكون المتعددة، تستلزم تكييفًا مختلفًا للقوانين "الحاكمة" للطبيعة. قارن ذلك بالتكييف الآخر الذي أحاط بإبراهيم عندما ألقي في النار، فكانت بردًا وسلامًا، ولمحمد عندما ركب البراق فسار في الأرض بسرعة لم تحرق جسده. خلْق المسيح بن مريم خرْق للقانون او للعادة، ألا يمكن استنساخ جنين من خلية إنسان أو حيوان؟ إنّ المعجزات هي تجليّات أخرى لقوانين الطبيعة التي تنفعل لخالقها وبارئها لحكمة يريدها ويبتغيها.
تاسعًا: إنّ عدم خرق القانون رغم إمكانه، دليل على كمال القدرة ومنتهى العلم والحكمة، وإتقان الصنعة والتّصميم، كما يشهد لذلك ستيفن هوكينغ بقوله " لدينا هذه الحياة لنقدِّر التّصميم الكبير للكون ولهذا أنا مُمتنُّ للغاية"، كان الاولى في رأيي أن يقول: " لدينا هذه الحياة لنقدِّر المصمِّم الكبير للكون ولهذا أنا ممتنّ له للغاية، إنّها نعمة الإيجاد والإمداد والهداية". ولكن الرجل انصرف بنظره من الفاعل، فما قدر الله حق قدره-إلى الفعل الذي هو "صنع الله الذي اتقن كل شيء" فأعرض عن الآيات الدالة عليه، قال تعالى: " وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ".
إنَّ عجزنا عن الانفعال الإيجابيّ مع الكتاب المنظور(الكون) والكتاب المقروء (القرآن)، بعيدًا عن صراعات نَشَأَتْ في غير بيئتنا، وعلى أرضيّة تختلف كليًّا عن تجربتنا الدينيّة والإنسانيّة عبر العصور، سيحرمنا من فرصة النهوض والريادة المعرفية والأخلاقية، ولكنّها التّبعيّة والتّقليد الأعمى، لشعورنا بالدونيّة المعرفيّة وأحيانًا الشخصيّة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]