ذلك التفاؤل الانسيابي الذي جسّده الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ربما يصلُح تعليقا على تلك الفرحة العارمة التي سادت قومنا، ابتهاجا بتصويت الأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها.

الكثيرون قد اعتبروا التصويت يحمل دلالات متعددة الأوجه:

صحوة للضمير الإنساني، والتفاف وتوحد عربي يعبر عن التوجهات الحقيقية للأنظمة العربية بشأن القدس، ويكشف عن عزلة أمريكية ونكسة جديدة لترامب، وفيه للرئيس الأمريكي الذي أدّت سياسته “أمريكا أولا” إلى “أمريكا وحيدة”…

وبالفعل، كانت مفاجأة للجميع أن تُصوّت 128 دولة لصالح المشروع المعارض لقرار ترامب، فيما رفضته تسع دول ليست قوى دبلوماسية، بينما امتنعت 35 دولة عن التصويت، منها دول برّرت امتناعها بأن القرار لن يُقدّم شيئا في دفْع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى مفاوضات حلّ الدولتين.

ومِما أضْفى على الواقعة مزيدًا من التفاؤل والابتهاج، أن التصويت بالأغلبية المُريحة قد تمّ رغم التهديدات العنترية الأمريكية بقطع المساعدات عن الدول التي سوف تصوت ضد قرار ترامب، فهل نعتبر تلك الجولة بداية جديدة لوقوف المجتمع الدولي ضد الغطرسة الأمريكية؟

من وجهة نظري، أرى أننا قد أفرطنا جميعا في التفاؤل بذلك التصويت، لأنه ينبغي لنا أن نتساءل: هل أصبحت دول العالم فجأة تنظر إلى أمريكا باعتبارها وسيطا غير نزيه في رعاية عملية السلام في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

لقد كان الدور الأمريكي واضحا منذ البداية أنه يرتكز على الانحياز التام للكيان الإسرائيلي، فسياستها تجاه المنطقة عموما تتحدّد وفق الرؤية الأمريكية الإسرائيلية المشتركة نتيجة للتلاحم العضوي بينهما، ما جعل واشنطن تتصرف كوكيل عن الدولة اللقيطة.

نعم هي ترعى دائما المفاوضات، لكنها مفاوضات تقوم على مبدأ الضرورة حتى وإن انعدمت عناصرها، فالمهم أن تكون هناك مفاوضات رغم العنت الإسرائيلي، وهي في ذلك (أي الولايات المتحدة) تتفادى التدخل في القضايا الجوهرية والإجراءات طالما كانت الأمور تسير لصالح الكيان الإسرائيلي.

ذلك الانحياز كان واضحا للجميع منذ البداية، لكن هذا التصويت بالأغلبية ضد قرار ترامب، كان لازما لحفاظ هذه الدول ماء الوجه، حيث أن الرئيس الأمريكي الذي يتعامل على طريقة عصابات شيكاغو، قد أحرج الجميع بذلك القرار حتى الحلفاء، ولم يترك لهم مخرجا من تلك الورطة أمام الشعوب.

وكان لا بد للأمم المتحدة أن تُبقِي على ذرّة وقار تُسوغ وجودها، بعد أن أهْدرت السياساتُ الأمريكية مهابَتها، ما جعل تشومسكي يصف تلك الهيئة بأنها تعمل كمُمثلة للقوى الكبرى.

لا ينبغي لنا الإفراط في التفاؤل والتعويل على المجتمع الدولي، لأنه لا يجب أن ننسى في النهاية أن القرار سوف يبقى رمزيا، وصداه السياسي لن يفوق لغة المصالح بين الدول، حيث ترتبط الولايات المتحدة بعلاقات متينة مع أغلب هذه الدول، والتي لن تضحي بها إذا ما ارتبط الأمر بقرارات ملموسة على أرض الواقع، قد تغير من مسار القضية الفلسطينية لصالح الفلسطينيين.

الأمر نفسه يقال تجاه موقف الدول العربية، التي لا يَسُوغ لها تحت أي ظرف التصويت لصالح القرار الأمريكي مهما بلغ حد التقارب والتحالف، لأنها في غنى عن تفاقُم أزماتها الداخلية، خاصة وأن القرار رمزي كما أسلفنا، وقطعا تدرك الولايات المتحدة ذلك، ولا يتوقع لها أن تقوم بقطع المساعدات عن الدول التي تنعكس توجهاتها على الأمن القومي الإسرائيلي.

ليس هناك توقعات لعلاقات مُغايِرة بين الدول العربية وأمريكا، فترامب رغم سياسة البلطجة التي ينتهجها يعرف ديّات العرب، فيُمسك هذا بتزيين استبداده وطغيانه وشرعنة ديكتاتوريته، ويُسيطر على هذا بأوهام الحماية من الأخطار المحدقة، ويداعب أحلام الصغار ببريق العروش، ليستنزف المزيد والمزيد من ثروات العرب، ولن يتوقّف عن إتمام صفقة القرن، طالما أن اللوبي الإسرائيلي يقف في ظهره ويدعم مسيرته، فليضرب العالم الجبان رأسه في الصخر.

ولو صدَقت توقّعات إسماعيل هنية التي صرح بها في مؤتمر القدس بغزة عن وجود معلومات تؤكد أن الولايات المتحدة قد تعترف في الفترة القادمة بيهودية الدولة وضم المستوطنات الكبرى للقدس وشطْب حق العودة، لو صدقت تلك التوقعات فلا يُتوقع أن يقابلها ردّ دولي أو عربي إسلامي يزيد عن عقد قمم للإدانة والرفض والاستعراض والهاشتاقات وتغيير صور البروفايلات.

ربما جاء ذلك الحدث ليتنفس أبو مازن الصعداء، فبعد أن وقف تائِهًا إزاء نسف مسيرة المفاوضات، أعاده التصويت إلى الميدان الذي يألَفُه، فأصبح الطريق مفتوحا أمام جبهته القانونية للعمل على تفعيل عدد من الاتفاقيات ومساءلة الاحتلال من خلال المنظومة الدولية.

الكيان الإسرائيلي الذي نظن أن هذه الجولة أصابته في العُمق، يستفيد من تلك المحطات أيّما استفادة، ففي الوقت الذي نتلَهّى ببعض فتات المكاسب وأوهام الربح عبر المفاوضات، يتّبع الاحتلال سياسة استهلاك الوقت التي تتيح له تهويد القدس وتغيير معالمها وبناء المستوطنات.

إنه لمن العبث تجاهل أن اعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل محلّ اتفاق بين كل الطوائف والمعتقدات والتيارات السياسية من اليمين إلى اليسار في الكيان المُحتل، وأنها تتجنب الدخول في أي تفاوضات تُلزمها بتعهدات تجاه القدس، فهي متروكة لديهم لسياسات فرض الأمر الواقع والاستيطان والتهويد.

الكيان الإسرائيلي كأنه يقول لنا: ليكن لكم النصر في جولة رمزية بالأمم المتحدة، ولنا النصر على أرض الواقع الذي لا يحسم التصويت أزماته.

ستنتهي هذه الفقاعة ونعود خطوات إلى الوراء لو لم تتم مراجعة شاملة للموقف الفلسطيني لدى الفلسطينيين أنفسهم، وربما كانت الفرصة سانحة لتفعيل حالة الغضب الفلسطيني لاندلاع انتفاضة ثالثة، تتلاقى فيها الفصائل مع الشعب، ويلزم لذلك خروج تلك الفصائل برؤية موحدة، حتى لا يتم وأد الفعل الانتفاضي العام بسبب غياب التنسيق بين السلطة والفصائل وضبابية الأهداف السياسية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]