تبدو سان جيمنيانو San Gimignano للوهلة الأولى وكأنها خارجة من كتب الأساطير القديمة. فهي تحمل على منكبيها تاريخاً طويلاً تشهد عليه تلك المباني التي ترقى إلى العصور الرومانية والوسطى وإلى عصر النهضة. قصدت تلك البلدة الوديعة الراقدة على إحدى تلال إقليم توسكانا الإيطالي، فشدتني إليها أبراجها الأربعة عشر التي ترسم في أفقها صورة فريدة مرئية من المناطق الريفية المحيطة بها. كما شدتني إليها أسوارها وبواباتها الغارقة بين بساتين الزيتون والكرمة، ومن إحداها دخلتها لأقضي فيها ثلاثة أيام. 

اليوم الأول
ها أنا أمر في وسط البلدة التاريخي الذي ضمته منظمة الأونيسكو الى لائحة مواقع التراث العالمية. وأخبرني المسؤول عن ترويج السياحة في البلدة أن تسمية سان جيمنيانو تعود إلى أحد الأساقفة من مدينة مودينا الإيطالية المعروفة ب «مدينة المحركات»، والذي قام في القرن العاشر بطرد جحافل البرابرة من البلدة. وتكريماً لأعماله البطولية سميت البلدة تيمناً بإسمه. وخلال العصور الوسطى أصبحت سان جيمنيانو مركزاً مهماً للتجارة ومحطة استراحة للمسافرين إلى روما. أما اليوم فهي مقصد الآلاف من المسافرين الذين يحطون الرحال فيها عند زيارتهم مدينة فلورانسا التي لا تبعد عنها سوى 36 ميلاً.
تزينت البلدة في الماضي بأكثر من 72 برجاً، لم يبقَ منها اليوم سوى 14 برجاً. وكم دهشت عندما علمت أن تصميم برج التجارة العالمي في نيويورك مأخوذ من برج ما زال قائماً هنا. فالأسر الأرستقراطية والثرية كانت تتباهى في ما بينها لإظهار ثروتها وقوتها من طريق بناء تلك الأبراج والساحات والمباني التي لا تزال شاهدة على ماضيها الذي في إمكانك أن تقلب صفحاته المشرقة وأنت تجول بين تلك الأماكن التي تعرض أمام ناظريك إرثاً ثقافياً وتاريخياً لا يزال ينبض بالحياة حتى يومنا هذا.
في وسط البلدة القديم تحتشد المآثر العمرانية الزاخرة بجمالها وجلالها، كالقصر البلدي Palazzo Comunale المعروف أيضاً بقصر الشعب. وهو حتى الآن مقر السلطة المدنية في البلدة منذ القرن الثالث عشر، ويحتوي على متحف وصالة لعرض الفنون لأسياد الرسم الإيطاليين أمثال «كوبو دي ماركوفالدو»، «ليبو ميمي»، «بينيتزو غوتسولي»، «فيليبو ليبي» وغيرهم كثر. وكم يقف الماضي شامخاً في أي من ساحات البلدة الأربع التي سيأخذكم كل منها في رحلة إلى الماضي من دون استئذان.
ففي ساحة «بياتزا ديللا شيسترنا» Piazza della Cisterna الثلاثية الشكل والمنحدرة قليلاً، ستطالعكم الأرصفة المرصوفة بالحصى، وبئر جوفي للماء مزينة فوهته بالحجارة المبنية بأشكال هندسية في غاية الجمال والدقة، وهو الذي أعطى الساحة إسمها الحالي نظراً الى أهميته الكبيرة عند بنائه عام 1278، وحوله تصطف المنازل التقليدية والأبراج التي تحمل بصمات العصور الوسطى. حظيت الساحة بأهمية كبيرة في العصور الماضية، لأنها كانت تستخدم كسوق لبيع المنتجات المحلية، وكمقر لإقامة المهرجانات والاحتفالات السنوية.
ستقودكم طريق ضيقة إلى ساحة «بياتزا دل دوومو» Piazza del Duomo وهي بلا منازع إحدى أجمل الساحات الصغيرة في إيطاليا. تزدان بالقصور وبكاتدرائية البلدة الرئيسة، وبالأبراج التي تمنحها مسحة جمالية مميزة، ولذلك يطلق على هذا المكان إسم نيويورك العصور الوسطى.
وسط تلك الروائع العمرانية يمكنكم الوصول إلى ساحة «بياتزا بيكوري» Piazza Pecori. إنها حقاً واحة هادئة، ويشبّهها كثيرون بفناء مسكن خاص نظراً الى صغر مساحتها. ويكمن سحرها في تلك القناطر التي تزينها من كل جانب وتضفي عليها رونقاً خاصاً.
ستنبسط أمامكم سان جيمنيانو الفخورة بماضيها العريق وحاضرها الزاهر، من خلال الصعود عبر أدراج ضيقة للوصول إلى القسم العلوي من برج قديم يعلو إحدى زواياها. وروح القرون الوسطى تستيقظ أيضاً في ساحة «بياتزا ديليه إربه» Piazza delle Erbe حيث تبدو حجارة مبانيها وأرصفتها وكأنها تريد أن تتحدث عما حدث منذ مئات السنين. متاجر بيع التذكارات المنتشرة هنا خير معرّف عن ماضي البلدة. فعبر تلك اللوحات الزيتية يمكنكم المقارنة بين سان جيمنيانو الأمس وسان جيمنيانو اليوم. فالفرق بسيط جداً، المباني نفسها، والساحات نفسها، والطرقات والأزقة المرصوفة بالحصى هي أيضاً نفسها، على رغم ان الزمن لونها بريشته الخاصة وألوانه العتيقة.
اليوم الثاني
يتحقق السيناريو الطبيعي على أرض سان جيمنيانو، ويتمايل عبر تلك التلال والمروج التي تحتضن أبنية ريفية رائعة. كل هذا كنت أتأمله من نافذة غرفتي في فندق «لا كوليجاتا» Hotel La Collegiata في صبيحة يومي الثاني، حيث كانت شمس الصباح تدعوني إلى الانطلاق لمشاهدة ما تقدمه البلدة لروادها. وعلمت عند الاطلاع على تاريخ الفندق انه شيد عام 1587 كدير لرهبان الفرنسيسكان، إلا أنه بمرور الزمن تحول هذا الصرح التاريخي إلى فندق من فئة الخمس نجوم، وتحولت القناطر المنتشرة في أرجائه إلى غرف أنيقة مزينة بروح الفن التوسكاني.
وأصل أمام بوابة «بورتا ديللي فونتي» Porta delle Fonti، وألمس حجارتها القديمة التي تختزن تاريخاً طويلاً يمتد إلى القرن الرابع عشر. وقد علمت أن هذه البوابة المزينة بعشرة أقواس رومانية، بنيت حول بئر للماء حيث كان يجتمع الناس لجلب الماء وغسل ملابسهم، وهي تضم مسكناً للبواب مؤلفاً من ثلاثة طوابق يشرف على مناظر بهية للريف التوسكاني. في الإمكان استئجار المنزل اليوم، واستحضار الماضي عبر تلك المفروشات والديكور الداخلي ومواقد النار التي تتأجج في غرفة الجلوس أو في المطبخ حيث ستتمتعون بتحضير المأكولات بالطريقة التقليدية.
وعند الحديث عن المطبخ التوسكاني وعادات أهل الإقليم القديمة، لا بد من ذكر الخبز الخالي من الملح الذي يمثل الرفيق المثالي للكثير من الأطباق المحلية، كما يعتبر الخبز العنصر الأساسي لأطباقهم الشهيرة مثل «الريبوليتا» وهو حساء خضروات، و «البنتانيلا» وهي سلطة خضروات يرافقها الخبز، و «الفيتونا» وهو خبز محمص مع زيت الزيتون. وفضلاً عن ذلك، ينتج إقليم توسكانا عدداً من أجود أنواع المشروبات وزيت الزيتون الذي يحظى بالتقدير في جميع أنحاء العالم. بعض تلك الأطباق تذوقتها في أحد مطاعم ساحة «بياتزا ديللا سيشترنا» التي وصلتها من جديد عبر ممر بانورامي تصطف على جانبيه أشجار الصنوبر الوارفة، وتحتها مقاعد خشبية للاستراحة بعد رحلة سير طويلة. وكانت تطالعني كلما رفعت بصري، تلك البيوت المتواضعة الغنية بماضيها والمزينة بنبتة الجيرانيوم التي تشعركم بأن الربيع زائر دائم للبلدة.
اليوم الثالث
تمتلئ سان جيمنيانو بأساليب البناء التي أصبحت مثالاً يحتذى حول العالم. فالحروب التي عصفت بالقارة الأوروبية لم تمتد شرارتها إليها، وبقيت تفيض بذلك الإرث الهندسي والفني والتاريخي الذي يعتز أهلها بالمحافظة عليه. لا بد من أن يتوقف زوار المدينة أمام متاحفها العديدة التي تعطي الرحلة إليها بعداً ثقافياً وتاريخياً.
ففي المتحف الأثري Museo Archeologico ستنتقلون إلى ماضي البلدة الذي يعرّف عن نفسه عبر تلك القطع الأثرية التي تعرض الأساليب التي كانت تستخدم لمداواة المرضى في القرن السادس عشر، بينها مجموعة من الأواني والفخاريات وبعض من البهارات والأعشاب الطبية. ولاستكمال الرحلة مع الأعشاب، خصص قسم آخر من المتحف للفنون الحديثة وللأعشاب الطبية التي تستخدم اليوم، وذلك لجذب عدد أكبر من السياح إلى هذا المكان.
ومن المتحف الأثري أنتقل إلى متحف التعذيب Museo della Tortura الذي هو جسر عبور إلى العصور القديمة. فالظلام يخيم على معظم غرفه الصغيرة، وستشعر بالرهبة عند دخولك أياً منها، وبالأخص عندما يرشدك النور الخفيف المسلط على معروضاته، وعلى بعض كتبه التاريخية التي تحكي عن أنواع التعذيب والعقوبات التي كانت تمارس بحق المجرمين والفارين عن القانون. ومما أثار انتباهي في المتحف، تلك الأواني النحاسية التي كانت تتم فيها عملية تسخين المسامير بالجمر قبل غرزها في جسد الضحية. وتنتهي الزيارة هنا في زنزانة صغيرة في الطابق السفلي، حيث تعرفت في غضون ساعة على ماضي أوروبا المظلم، قبل الخروج إلى النور والعودة إلى رحاب البلدة التي لا تعذيب فيها اليوم ولا محاكمات، بل هدوء وسلام وأوقات هنية. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]