أعتقد المستشرقون الألمان أن التاريخ العربي شبيه بتاريخهم القديم لذا فهم أقدر على فهم العالم العربي وثقافته قياساً بغيرهم من الأوروبيين الذين تماهت العلاقة عندهم بين العلم والسياسة، فكان مستشرقوها أداة ثقافية لخدمة الاستعمار في أوج النزعة الإمبريالية الغربية. وهذا يفسر سبب عدم إدراج المفكر المرحوم ادوارد سعيد الاستشراق الألماني ضمن دراسته حول الاستشراق لأنه كان معنياً بكشف الخيوط التي تربط بين الإمبريالية والدراسات الغربية للثقافات الشرقية.
 

نستحضر هذا الكلام، ونحن نرى اليوم اهتماماً ألمانياً متزايداً في العالم العربي. وكعادة الدول الكبرى في نشر ثقافتها تعمل ألمانيا على تخصيص قنوات تلفزة ومراكز بحثية ومواقع إخبارية ناطقة بلغة المجتمع المستهدف، مثل موقع "قنطرة" أو قناة "دويتشه فيله" الناطقة بالعربية.

عرضت القناة المذكورة ظهر الخميس الواقع في 19-10-2017، فيلماً وثائقياً من جزئين، يتناول ظاهرة التطرف بين المسلمين الأوروبيين. وقد استعرض الفيلم عدداً من الحالات التي خاضت تجربة التطرف أو عايشت تجربة مثيلة عن قرب.

أحد المستنطقين المسلمين من أصول أفريقية، يتحدث عن تجربته ‏كيف دخل السجن في بلد أوروبي، مُتهما بجريمة قتل لم يرتكبها. ثم كيف أطبق اليأس عليه داخل السجن وتمكن منه الغضب والكره للمجتمع الغربي، ولم يجد في وحشته والهاوية التي سقط فيها إلاّ الدّين ليستمد منه القوة. ولولا أن له أولاداً خارج السجن وكان يفكر بحمايتهم لنال منه التطرف قبل أن يستطيع مكافحة الكره، ثم النضال بعد خروجه السجن من أجل محبة الآخرين.

شاهد آخر عاين تجربة أخرى، يتحدث كيف انه بعد عام 2009 تغير سلوك كثير من زملائه حين بدأوا يتساءلون عن هويتهم الدينية عقب قيام السلطات بحظر النقاب ما دفعهم الى اعتبار الإسلام محارب من قبل الحكومات الأوروبية.

آخر تحدث كيف أن المسلمين يعيشون على هوامش المجتمع في البلدان الأوروبية وأن نضالهم المستمر من أجل الاندماج لم يحقق لهم ما يريدون حيث يظل المجتمع الأوروبي يرفضهم والديمقراطية التي يتحدث عنها الغربيون هي ديمقراطية زائفة غير حقيقية، لذا لجأ بعض المتدينين الجدد نحو التطرف، والهروب خارج البلاد من أجل الجهاد. لقد حقق لهم التدين الشعور بالمكانة بعد أن كانوا نكرةً داخل المجتمعات الأوروبية وفق قوله.

ورغم حداثة ولادتها، تقدم قناة "دويتشه فيله" مادة رصينة ومفيدة. والنيّة الطيبة على افتراض وجودها غير كافية في معالجة خلل فكري بأسلوب غير ملائم لطبيعة المشكلة المطروحة.
فمن الأخطاء البنوية في الفيلم - إذا كان بالفعل يسعى لمواجهة التطرف- استصحاب المعدّة والمقدمة طيلة الفيلم النّاقد للإسلام المصري الأصل "حامد عبد الصمد" المعروف بتخصيص كامل نشاطه في كتبه وعبر الانترنت للتهجّم على الدّين الإسلامي والتشكيك بنبوة النبي وتكذيب دعوته، وتكراره الدؤوب أن المشكلة في الإسلام نفسه، وأن المسلمين مجرد ضحايا للدّين الإسلامي وليس العكس.

يقول عبد الصمد -كما يرد في الفيلم- في حوار مع أحد خطباء المساجد في فرنسا: "أنا استخدم ‏علاج الصدمة. والقرآن ليس أفضل كتاب تمّ تدوينه.. محمّد مجرد شخصية تاريخية له أخطاء". وهو لا ينفي تخلّيه عن دينه الإسلام خلال الحوار، ويفضل القول: إنه كان مسلماً.

‏في نهاية الفيلم، تعقّب معدّة الفيلم ومقدمته في شكل حوار ثنائي بينها وبين عبد الصمد، وهما يمضيان بعيداً عن عدسة الكاميرا رويداً رويداً: أكثر ما سمعت في هذه الحلقة "الإسلام الحقيقي" أنا لا اعرف أين الإسلام الحقيقي؟ أعتقد إنها مجرد كلمات ليس لها معنى.

يردف حينها عبد الصمد: الإسلام لا يمكن إصلاحه.. لا اعتقد أنه يمكن إصلاحه.. أظن أن المسلمين هم من قد يتطورون نحو الأحسن. وذلك في تلميح واضح لضرورة تخلي المسلمين عن دينهم إذا أرادوا تغيير وضعهم في العالم.

وحتى لا يقع اللبس، فإن الاعتراض ليس على شخص الأستاذ حامد عبد الصمد، وليس رفضاً لما يؤمن به اطلاقاً، وليس من منطلق الشعور بضرورة الدفاع عن الإسلام. فالدّين الإسلامي له علماؤه وهم أولى بالدفاع عنه والتحدث بشأنه. وهو أمر خارج تخصصنا.

ومع تقديري للأستاذ عبد الصمد، وإيماني بحقّه في التعبير أو التبشير بمذهبه في الحياة، وبضرورة الحوار مع الجميع بلا حدود، ومع تجريمنا المطلق لكلّ من يرفض حقّ الآخر في الرأي والاعتقاد إلا أننا نزعم أن استحضار شخصية مثله، في فيلم يهدف كما يبدو من خلال تقديمه إلى مواجهة التطرف والعنف، لن يساعد على تحفيف الإرهاب أو مواجهته بين مسلمي أوروبا. بل أزعم أن المتطرفين والبسطاء من المسلمين سيجدون في مثل هذا الفيلم مبرراً كافياً للقول إن الأوروبيين يحاولون تشويه الإسلام عن عمد ويستهدفون الدّين نفسه، وعندها لن يعدم هؤلاء الحجج والوسائل للوقوع فريسة ما يتوهمونه انتصاراً لدينهم.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]