مرةً أخرى تستدعي الحكومة الإسرائيلية نفس الشروط التعجيزية، التي أطلقتها من قبل، للقبول بالتفاوض مع حكومة وحدة وطنية فلسطينية تستجيب للمصالحة التي عقدت بين حركتي «فتح» و»حماس» قبل أكثر من أسبوع.
رئيس الحكومة نتنياهو يتعامل مع الملف الفلسطيني كما لو أنه طرف فيه، أو قطب فلسطيني ثالث يمتلك التأثير وله الحق في المباركة أو الاعتراض على نتائج المصالحة التي جرت في قطاع غزة، وتكتمل فصولها في القاهرة والقطاع.
الرجل اشترط للقبول بالتفاوض مع الفلسطينيين أن تتخلى حركة «حماس» عن سلاحها وأن تعترف بالدولة العبرية وتدين العنف، فضلاً عن شروط أخرى، مثل دعوة «حماس» لقطع علاقتها مع إيران وإطلاق سراح ما تعتقده إسرائيل بوجود ثلاثة سجناء لها في قطاع غزة، وإعادة رفات جنديين مفقودين.
بالتأكيد إسرائيل لا تريد لاتفاق المصالحة الفلسطينية أن ينمو ويتطور وبالتالي تتحسن العلاقات الفلسطينية الداخلية، لأن ذلك لن يخدم مصالحها الإستراتيجية في استكمال مسلسل الاستيطان والتدمير الممنهج للدولة الفلسطينية في الضفة الغربية.
أساساً حين خرج اتفاق المصالحة الفلسطينية إلى النور، ذهبت إسرائيل لإعلان مشروعات استيطانية جديدة في الضفة، تبعها إجراء آخر خطير يجيز بناء وحدات سكنية في مدينة الخليل التي لم يجر البناء الاستيطاني فيها منذ أكثر من 15 عاماً.
هذه الإجراءات الإسرائيلية السريعة تستهدف ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتأتي لمعاقبة الفلسطينيين على سلوكهم التقدمي في لجم الانقسام والالتفات إلى صراعهم مع المحتل، ومن غير المستبعد أن يقدم الاحتلال الإسرائيلي على ارتكاب حماقات أخرى.
نتنياهو كعادته استخدم فزّاعة «حماس» لإثارة المجتمع الدولي والولايات المتحدة والرباعية الدولية، فقد كان في السابق يبرر استيطانه وممارسة حكومته العنصرية بالقول: إنه لا يوجد شريك فلسطيني، والعملية التفاوضية مجمدة في «الثلاجة»، بينما اليوم يكرر نفس العزف على وتر أن «حماس» تهدد الأمن الإسرائيلي، وربما تهدد الأمن والسلم العالميين!
سبق وأن اشترط رئيس الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بيهودية الدولة للقبول بحل الدولتين، وفي ذات الوقت كان يعطي الأوامر لتسريع عملية الاستيطان من أجل قتل مشروع الدولة الفلسطينية، وأعاد طرح هذا الاشتراط أوائل العام 2017 للقبول بمصالحة «فتحاوية» «حمساوية».
الولايات المتحدة الأميركية التي رحبت بالمصالحة الفلسطينية، لن تخذل إسرائيل في موضوع شروطها، بل ستتمسك بهذه الشروط، حالها في ذلك حال أوروبا التي دعت هي الأخرى إلى ضرورة أن توافق «حماس» على الاعتراف بإسرائيل.
في كل الأحوال، إذا افترضنا أن جميع الفصائل الفلسطينية تخلت عن سلاح المقاومة وتحولت إلى الدبلوماسية الناعمة ولم تذكر إسرائيل لا من قريب أو بعيد، فإن نتنياهو وحكومته ماضيان في تنفيذ مخطط الاستيلاء الكامل على الضفة الغربية، وضرب الوحدة الفلسطينية من الداخل.
حين كانت العلاقة بين «فتح» و»حماس» متوترة إلى أبعد الحدود، والسلطة الفلسطينية تسير على نهج الرئيس عباس في موضوع إسقاط المقاومة المسلحة والاستعاضة عنها بالمقاومة الشعبية خياراً إستراتيجياً، لم يعجب إسرائيل مثل هذه السياسة وظلت على مشوار القتل والتدمير ومصادرة الأراضي الفلسطينية.
حتى أنها السبب الرئيس في إفقار الفلسطينيين، إذ حين يحرد الأوروبيون من الحكومة الإسرائيلية بسبب ضربها بنى تحتية حيوية فلسطينية بنيت بدعم من الاتحاد الأوروبي، فإن إسرائيل لا تأبه لهذا الزعل، بل أكثر ما يهمها هو جعل الفلسطينيين مهمومين في أمور تدبر الحياة والمعيشة.
هذا بالضبط ما تريده إسرائيل، أن يظل الفلسطيني مشغولاً بالانقسام الداخلي، يفكر في قضايا هابطة مثل الكهرباء والمياه والحواجز والمعابر وأحواله المعيشية، ولا يتمكن من النظر إلى أبعد من ذلك، إلى حيث النظر في الممارسات الإسرائيلية التي تستهدف الوجود الفلسطيني في الصميم.
وتراهن إسرائيل على شيطنة فلسطين سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية ومناطق 48، لأنها تدرك أن تغيراً في الميزان الديموغرافي إذا لم يُخل، فإنه حتماً سيرجح نحو كفة الفلسطينيين، ولذلك تجدها تبتدع أساليب ماكرة تُصعّب من حياة الناس لدفعهم طوعياً لمغادرة أراضيهم والبلاد.
الخطاب الإسرائيلي الحالي والمستقبلي معروف سلفاً للفلسطينيين جميعاً، كونه خطاباً يحرض على رفض الوحدة الوطنية الفلسطينية بمقاسات الفلسطينيين أنفسهم، ويستخدم هذا الغطاء لاستكمال السيطرة على الضفة الغربية، خصوصاً وأن الاحتلال ينظر من الناحية الإستراتيجية والأمنية إلى الضفة بأهمية بالغة.
بالنسبة لإسرائيل ليس هناك من خيار أبداً لإقامة دولة فلسطينية، حيث تتعامل مع الضفة الغربية على أنها حديقتها الخلفية التي تستخدمها لأغراضها الأمنية والجيوسياسية، بينما لا تقيم وزناً لقطاع غزة، فهي أصلاً لا تريد هذه المنطقة التي تركتها بحكم ارتفاع تكلفة الأعباء الأمنية.
قد توافق إسرائيل على قيام دولة فلسطينية لكن في قطاع غزة، في حال أصر الفلسطينيون على قيام دولتهم، وهنا أيضاً ستضع الحكومة الإسرائيلية اشتراطات كثيرة على السلطة الفلسطينية والفصائل، بحيث أن يتحول هؤلاء إلى سلطة بلا سلطة وفصائل دون أظافر وأسنان.
هذه هي خلاصة الموقف الإسرائيلي من الملف الفلسطيني، تأبيد الانقسام الفلسطيني ومنع قيام دولة قابلة للحياة، وضرب مقومات أي مشروع اقتصادي فلسطيني حيوي، وإبقاء الفلسطينيين عند حدود التنفس الطبيعي بحده الأدنى، والانصراف عن التفكير في الأولويات والثوابت الفلسطينية وإفراغ الخزان الديموغرافي تدريجياً.
غير أن أفضل طريقة للرد على إسرائيل هي بتأكيد وحدة الصف الفلسطيني واستعادة الحوار الشامل الناضج الخالي من العصبويات والمصالح الفصائلية، وإيجاد حالة من التوازن في إدارة الملف الفلسطيني بأقل نوع من الضرر، مع الأخذ بعين الاعتبار الحساسيات الإقليمية والدولية.
ويجوز القول أخيراً: إنه لا ضرر في التنازل بين الفصائل الفلسطينية من أجل إنجاح مسار المصالحة، خاصةً وأن قبلة الفلسطينيين في هذه الأثناء هي شطر قطاع غزة والقاهرة، وحيث ينتظرون بفارغ الصبر حماية الاتفاق واستدامته حتى يأخذهم إلى بر الأمان.
إن المصالحة الفلسطينية خطوة في مسار الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ شتان بين مقاومة الاحتلال والشعب الفلسطيني مقسوم على اثنين، وبين مقاومته والشعب موحد. دعونا نكمل فرحتنا بتمكين هذه الوحدة لعلها تفلح في إعادة الروح لنا من جديد.
[email protected]

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]