بجسده الضعيف، يُحاول التواري خلف جلباب جدته أو ملاذه الأول والأخير في نظره، يسترق النظرات لكاميرا "دنيا الوطن" بعينين متورمتين تحيطهما الكدمات الزرقاء التي بدأت تتلاشى بعد ثلاثة أيام من تعرضه للتعذيب.

لا يزال الطفل "م.س"، في حالة ذهول وخوف وترقب، لم يأمنَّا فهو لم يعد يثق بأي شخص عدا الشرطي الذي احتضنه وهدأ من روعه، ليبكي في أحضانه راجياً "خلي بابا محبوس ما تطلعوا يضربني".

لكن سير التحقيق، أجبر الشرطي على إحضار والده الذي حاول الاعتذار لابنه واقناعه بأن يُغير أقواله، إلى أن اقترب من طفله ليحتضنه ويُقبله ليُصاب الأخير بالتشنج ويبكي خوفاً من أقرب الناس إليه، قبل أن يضطر الشرطي لسحبه من أحضان والده يهدئ من روعه مرة أخرى ويطمأنه بأنه لن يسمح له بالاقتراب منه أو ضربه مرة أخرى.

الألم في التفاصيل

بصوت منخفض راجف بدأ الطفل "م.س" (9 سنوات) الحديث لكاميرتنا حول ما يتعرض له من تعذيب جسدي على يد والده، وتعنيف نفسي من قبل زوجة والده: "بابا ضربني (ببربيش الغاز) عشان قلتله بدي أشوف ماما، وجرح إيدي وبطني بالسكينة وحرق رجليا بالولاعة".

أما حول ممارسات زوجة والده قال: "بتخليني ألم براز أخويا الصغير، وبتخليني أهز سريره طول الليل وهيا نايمة، وأنا بنام في الصف الصبح... ولما أجوع بتحطلي خبزة صغيرة وبضل جوعان".

الطفل ضحية تفكك أسري حدث قبل ولادته، فوالدته طُلقت حين كان جنيناً عمره شهرين في أحشائها، وبعد ارتباط والدته برجل آخر بقي لدى جدته "من جهة الأم"، والتي عاملته كأحد أبنائها إلى أن طالبها والده بحضانته قبل ثمانية أشهر فقط، وتحت الضغط وافقت.

قرار شجاع

تعرض الطفل للتعنيف فور انتقال حضانته لوالده، وكان يهرب يومياً إلى جدته مرة أخرى، ويأتي الأب ليستعيده في مشهد مأساوي مؤثر، حيث فقد الطفل أحد أسنانه في إحدى المرات حين أمسك تلابيب جدته، محاولاً الهرب من بطش والده، وفقد أسناناً أخرى بسبب الضرب العنيف.

وحين اشتدت وتيرة العنف على الطفل لم تجد الجدة سوى الشرطة لتُنهي المشكلة من جذورها وتُنقذ حياة حفيدها.

توقيف الأب

وروى المقدم عاطف اللوح لـ"دنيا الوطن" لحظة استقبال حالة الطفل: "في يوم الثلاثاء الموافق 17 تشرين أول/ أكتوبر حضر الطفل برفقة جدته وعلى جسده آثار تعذيب شديدة حيث تم كسر بعض أسنانه الأمامية وجرحه بالسكين، وحرق قدميه بالولاعة، كما أن زوجة والده تعامله بطريقة لا تليق بطفل أو إنسان حتْى، لدرجة أننا صُعقنا في مركز الشرطة من منظره".

واستطرد اللوح: "أخذنا إفادة الطفل وإفادة جدته وتم عرض الملف على النيابة التي فوضتنا بتوقيف والده مدة 15 يوماً على ذمة التحقيق، وتم التواصل مع مندوبة الشرطة لدى الشؤون الاجتماعية في وحدة حماية الأسرة والطفولة، لإعادة تأهيل الطفل نفسياً، ومتابعة حالته عبر برنامج مكتمل".

وحول الحكم المتوقع صدوره في حق الأب، أوضح اللوح أن هذا دور القضاء، وشرح دور الشؤون الاجتماعية، الذي يتلخص بإثبات عدم أهلية والده وزوجة والده، لحضانة الطفل وأنهم غير مؤتمنين على حياته، ويسعون لإعادة حضانته لجدته من جهة الأم لأن والدته متزوجة.

وأضاف: "في حال أفرجت النيابة عن الوالد، سيكون عليه الكثير من القيود والتعهدات بعدم تكرار ما فعله".

العنف لا يولد إلا العنف

واستنكر اللوح حالات العنف ضد الأطفال: "نعيش في مجتمع يعتقد أن لكل أب الحق في تربية أبنائه بالطريقة التي يراها مناسبة حتى لو كانت بالعنف الشديد، ولا يوجد محاسبة لهذه الفئة لأنها ثقافة مجتمع بأكمله، كما أن المجتمع مترابط ومتماسك ما يجعلهم صامتين عن حالات العنف حتى لا يخسروا بعضهم، وهذا الأمر يحتاج لتوعية وورشات عمل".

وحول طريقة تعاملهم مع القضايا التي يتم الإبلاغ عنها قال اللوح: "لا يوجد في القانون أي قصور لحماية الطفل، فنحن نتعامل بجدية مع كل قضايا التعنيف التي تصلنا، لكن القصور في المجتمع الذي لا يعرف حقوقه من واجباته، فالأب مثلا يعتقد أن من حقه تعذيب طفله بحجة التربية، وما يحتاجه المجتمع هو التوعية اللازمة".

وأضاف: "يجب علينا كشرطة في مجتمعنا العمل على وقف هذه الاعتداءات، وردع المعنفين لأنها في المستقبل ستنتج عنصر مجرم للمجتمع، ونعمل على معالجة هذه الحالات حتى نبني شخصية سوية للطفل تؤهله أن يصبح فرداً صالحاً في المجتمع، والتربية السليمة تنتج عنصر صالح في المجتمع، وهذا واجبنا أن نمنع الجريمة قبل وقوعها".

التعنيف الجنسي

وتتابع مندوب الشرطة في شبكة حماية الطفولة في الشؤون الاجتماعية المقدم مريم البرش حالة الطفل، تقول لـ"دنيا الوطن": "في البداية نتحرى مدى صلاحية احتضانه من قبل والده، وحين ثبوت عدم أهليته نقوم بإعادة حضانته لجدته ونضعه في برنامج "الدمج الأسري" بالتعاون مع قرية (sos)، ويتم منح الطفل شهرياً (400 شيكل)، إذا لم تكن المحتضنة مؤهلة مادياً".

وحول طبيعة عملهم تقول:" نتأكد من أي بلاغ يأتينا ونرسل مندوبي الشبكة كأخصائيين اجتماعيين، وإذا ثبتت الحالة نبلغ الشرطة فوراً ويتم استدعاء المعنِّف والطفل الذي تم تعنيفه لأخذ إفادته".

وأضافت: "نذهب مباشرة لمنزل الطفل لنبدأ في تأهيله نفسياً، حتى لا يُعرض نفسه لأي خطر بسبب الخوف أو الصدمة النفسية التي أصابته من التعنيف" .

وكشفت البرش أن أسوأ حالات العنف التي قامت الشبكة باستقبالها هي حالات العنف الجنسي خاصة حين يكون من أقرب الأقربين.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]