حدثت هذه القصة قبل عدة أعوام، في احدى البلدات التي تتجلى وتتحلى وتنعم بمدرسة حكومية واحدة ووحيدة، لا يملك الاهالي فيها خيارات إضافية لتسجيل اولادهم. مدرسه عادية تعج بأطفال البلدة ومعلمات ومعلمين من القرية والقرى المجاورة يرأسهم مدير حازم، صارم يصول ويجول في الممرات كديك الحبش نافخا صدره معتزا بإنجازاته التربوية التي تتمثل بامتحان الإبرة!

نعم إنه امتحان "إلق الإبرة واسمع رنتها"، اذا سمعت صوت ارتطام الابرة في ارض الممرات الصف بعد القائها فاعلم أن كل شيء تحت السيطرة، ويعم الهدوء المكان مما يدل على مستوى التركيز والاهتمام بما يأتي به المعلم من حكم وعبر ومعلومات بأسلوب يحبس الانفاس فلا تسمع سوى صوت الإبرة! انه النجاح الحتمي!

كان تامر (تموره) كما تناديه أمه، الطفل الاول في عائلته الذي يدخل المدرسة فأخوه عمره ثلاث سنوات وأخته ما زالت رضيعة.
احتفل الام والأب بتموره الذي سيبدأ رحلة الدراسة التي ستستمر اثنا عشرة عاما.

اشتروا جميع اللوازم والحقيبة مع العجلات والمقلمة مع السحّاب السري، والدفاتر ذات الجلدة التي لا تتمزق ومضادة للماء، والكتب تم تغليفها وتجهيزها حسب التعليمات. كل شيء جاهز لليوم الكبير الذي تطأ قدما تامر الصغير الصف الاول.

بكت الام من فرحتها ورافق الاب تامر الى المدرسة ليتعرف على المعلمة فدوى وزملائه في الصف.
كان تامر رغم الأحاديث والقصص والزيارات للمدرسة خلال العطلة، لا يعلم جيدا ماذا عليه ان يفعل لكي يلقى استحسان المعلمة فدوى.
حدسه الخاص أرشده للمعادلة التي تعني أن معلمة راضية تساوي نجاح في الدراسة، مما يؤدي حتما للسعادة العائلية الحقيقية وكل ما يتبعها من مكافآت جوائز وامتيازات عاطفيه ومادية.

لم يعلم تامر ما سرّ ارضاء المعلمة فدوى فحاول الانصياع لكل ما تريد، يجلس بهدوء، لا يتحدث بدون إذن، يحضر الدفاتر، يرتب الكتب يحاول ويحاول ان ينال منها كلمة إعجاب او تشجيع.

حاول تامر تقليد زملائه من الاطفال لكي يضمن نجاحه في مهمة إرضاء المعلمة فدوى.
تعود تامر على جرس المدرسة وفهم أنه إشارة للخروج والدخول الى الصف ويرمز احيانا لانتهاء فقرة معينة من يومه الطويل خلف الطاولة الخضراء.

في الاسبوع الثاني تقريبا بات تامر قلقا من الجرس، وأصبح يخاف منه.

لقد كان يلعب في ساحة المدرسة بعد أن تناول ساندويش الزعتر وشرب الماء، ومع سماع الجرس ركض مع باقي الاولاد للصف، ولمح المعلمة فدوى تدخل قبله، فركض خلفها ودخل بسرعه متّجها للطاولة.

وقفت المعلمة فدوى ووضعت أوزارها على الطاولة وقالت مع نظراتها الثاقبة المعاتبة " هل هذه هي طريقة الدخول للصف يا تامر؟ "
وقع هذا السؤال على تامر كالصاعقة! ولم يستطع ان يرفع رأسه وينظر اليها.

سكت تامر، ولم يصدر أي صوت في تلك الحصة والتي تليها الى اخر اليوم.
لقد استنتج ان دخوله راكضا للصف ليس بالأمر الجيد وهو ما جعل المعلمة فدوى تشير اليه امام الجميع مستاءة الى تصرفاته.
في اليوم التالي خرج تامر الى الحمام في استراحة ما بين الحصص. ودخل صف المعلمة فدوى بهدوء خطوة خطوة وطأطأ رأسه حتى وصل مقعده وجلس.

بدأت المعلمة فدوى الدرس قائلة " تامر، هل هذه طريقة دخولنا للصف؟؟طبعا لا..

ماذا؟ لقد مشيت خطوة خطوة، أين أخطأت؟

هل تأخرت عن الدرس؟ معقول؟ حاول تامر ان يعرف بماذا تفكر المعلمة فدوى وماذا تريد منه؟.
قرر في داخله أن يراقب طلاب الصف ليعلم كيف يدخلون للصف. ولم يخرج للفرصة ولم يلعب بل جلس ينتظر رجوع الطلاب ودخول المعلمة ليعلم أين كان خطأه.

دُهش تامر أن بعض الطلاب يركضون والبعض يمشون وآخرون يهرولون، يتقهقهون ويتحدثون، بعضهم يأكل والآخر يشرب.
ودخلت المعلمة فدوى مبتسمة وقالت: مرحبا طلابي الأعزاء، كيف حالكم؟.. سنتعلم اليوم حرفا جديدا، وأكملت ..

سرح تامر وحيدا ليحل معضلة الدخول للصف، وخلص للنتيجة انه لا يمكنه الدخول اذا كانت المعلمة فدوى هناك، عليه أن يهتم أن يكون قبلها في الصف فلا يتعرض للمساءلة عن طريقته بالدخول.

وبعد يومين خرج تامر ليشرب ورجع ليرى المعلمة فدوى قد سبقته للصف.
خفق قلبه وارتعشت مفاصله ووقف في الممر محتارا.
لمحته المعلمة فدوى ونادت عليه " ادخل يا تامر، لم انت بالخارج"؟ وكانت نبرتها لطيفة نوعًا ما.
ازدادت ثقة تامر ودخل الى الصف متوجها لمقعده مباشرة.
وقبل ان يجلس ويختفي تحت الطاولة الخضراء وقفت المعلمة وسألت
-ماذا كنت تفعل خارج الصف يا تامر؟
- كنت اشرب، رعد صوته الخافت مجيبا.
- حسنا، وهل ندخل الصف هكذا يا تامر؟
- لا .. أجاب تامر. أنا آسف
-لا بأس قالت المعلمة ، في المرة القادمة لا تنس أن تدخل كما يجب.
-حسناً
لقد عجز تامر عن كل شيء، التفكير ، الكتابة، التركيز. ولم يسمع اي كلمة في تلك الحصة.
حاول بكل ما أوتي به من قدره أن يعرف السرّ.
كيف يدخل الطالب الصف.
لقد عجز عن الإجابة ..
وأصبح يكره الخروج من الصف كي لا يدخل اليه، لكيلا يسأله أحد كيف ندخل الصف يا تامر.
لاحظت أم تامر كم هو حزين طفلها في المدرسة، وحاولت التحدث معه لكي تفهم ماذا يقلقه.
ولم يتحدث تامر معها، قال لها إنه يفهم الدرس وإن الاطفال لطفاء والطعام جيد، ولا ينقصه شيء. عزا والدا تامر التغيرات في تصرفاته وحزنه وقلقه الى مرحلة الانتقال للمدرسة، وحاولوا تشجيعه انه سيفهم ويتعلم ويتعود مع مرور الوقت .
ولكنه في احدى المحادثات التشجيعية الخاوية تلك انفجر بالبكاء وصرخ " كفى، إفهموا!
أنا لا أعرف كيف أدخل الصف، أنا غبي، كل مرة أدخل فيها تقول المعلمة: لا ندخل هكذا الصف يا تامر! جربت الركض، والمشي والدخول مع أصدقائي حتى أني جربت أن أدخل على رجل واحدة.
لا أعلم كيف يدخلون الصف.
هل فهمتم؟ أنا غبي وحسب والمعلمة فدوى غاضبه مني.
لا أريد الذهاب إلى المدرسة. انتهى.
بكى تامر وبكت أمه معه ولم يعرف الوالدان ماذا يفعلان لطفلهما الذي انهار بدأ يمر بأزمة حقيقة لم يعلمان بها.
بين العتاب ولوم تامر لمَ اختار أن يخبئ ولا يشارك أهله بمشكلته وبين التعاطف والشعور بالشفقة على طفل في السادسة يواجه أول موقف صعب في حياته الدراسية، وبين حنان الوالدين يحتضنان طفلهما الباكي والشعور بالذنب لأنهما لم يعلمان المعاناة التي يواجهها ابنهما وحيدا. كل هذه الامور ذهبت للنوم مع هذه الأسرة الصغيرة التي دخلت الصف الاول.
في صباح اليوم التالي رافقت الام تامر إلى المدرسة باكرا، وطلبت لقاء المعلمة فدوى قبل دخولها الصف، وانتظرت مع تامر المرعوب البائس توجه المعلمة فدوى للصف.
لمح تامر المعلمة في آخر الممرّ وخفقت دقات قلبه الصغير بقوة وأحكمت أصابعه الرقيقة التشبث بأنامل أمه الدافئة، حتى باتت المعلمة فدوى على بعد خطوتين من تامر. وقالت مبتسمة: صباح الخير يا تامر؟ كيف حالك اليوم؟
أجابت الام: نحن بخير شكرا، ولكن تامر يواجه أمرًا ما، نودّ أن نتحدّث حوله معك.
المعلمة: طبعا طبعا، ماذا يريد الامور تامر؟ إنه طالب جيد جدا ولطيف. ماذا حدث؟
سردت الام أمام المعلمة قصة تامر ودخوله الصف، وكيف أصبح يخاف دخول الصف لكيلا يسمع الملاحظات أو اللوم. كلما أسهبت الأم في الشرح والتفصيل دخل تامر ثوب والدته واختفى في قلبه، متمنيا أن تبلعه الارض ولا يواجه غضب المعلمة فدوى.
وسألت الأم المعلمة فدوى التي لم تتوقف عن الابتسام أبدا: ماذا تعنين عندما تقولين لتامر
لا ندخل الصف هكذا؟ كيف تريدين أن يدخل تحديدا؟
تنفست المعلمة فدوى بهدوء واعتلت وجناتها حمرة لطيفة وكحلت عيناها نظرة بارقة حنونة وقالت: كنت أريد أن يلقي تامر التحية عند دخول الصف. فقط! كنت أريده أن يقول صباح الخير، مرحبا، السلام عليكم. اي تحية .. ولا يدخل ساكتا.
خرج تامر من بين طيات ثوب أمه رويدا رويدًا وترك يدها وقال: تريدين أن أقول مرحبا؟
المعلمة فدوى: نعم حبيبي، مرحبا او صباح الخير. اي شيء
تامر: هذا وحسب؟
المعلمة فدوى: نعم هذا وحسب
الام: فقط، التحية؟
المعلمة: نعم أريد أنا أعلّم طلابي كيف يحترمون الصف والمعلمين وكيف يلقون التحية في المكان والزمان المناسبين.
الام: وهل شرحت لهم ذ لك بوضوح؟ هل فسرت ما تعنين بشكل مباشر وبسيط كما شرحت الان؟
المعلمة: في الحقيقة، لا، لم أفعل، معظم الاطفال فهموا ما أريد منهم لوحدهم.
اشارت الام لتامر أن يدخل الصف. فدخل مسرعا، منفرجا وفرحًا مع حلّ لغز الدخول للصف. وصاح نحو زملائها "صباح الخير!"
وبقيت الام والمعلمة خارج الصف لدقائق قليلة، شكرا لك ونهارك سعيد معلمة فدوى، أرجو أن تكون هذه تحية كافية قالت الام.
شكرا نهارك سعيد وفرصه سعيدة .. أجابت فدوى ودخلت صفها لتقول معلنة: صباح الخير يا طلابي الأعزاء!
صباح النور انطلقت الجوقة الجماعية بقوة في فضاء الصف.
سوف نتدرب اليوم على التّحيات يا أولاد ..
صباح الخير
مساء الخير
شكرا ومرحبًا ونهارك سعيد ومرحبًا، من منكم يعرف ماذا نقول عندما ندخل الصف مثلا؟....

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]