على متن سيارة جيب بوسع الزائر القيام بجولة قبيل الغروب والاستمتاع بشمس الأصيل في صحراء وادي رم في الأردن مثلما بوسعه التحليق من فوق الرمال الحمراء ومشاهدة مفاتنها من على منطاد طائر ففي الأردن تنتشر اليوم سياحة المغامرات بأنواعها. لكن أجمل ما في الصحراء لياليها.. فالسهرة داخل منتجع الـ" الكابتن "(القبطان)المجهز بكل ما يحتاج مرفق سياحي حيث تعد عادة وجبة طعام على الطريقة الصحراوية " الزرب " أو المدفونة القائمة على فكرة طهو اللحم مع الخضراوات في باطن الأرض. هذا بالنسبة للطعام أما أجمل المشروبات هناك فهي القهوة. " فوّت نصر ولا تفوّت قهوة العصر " يقول البعض. صحيح لكن في الصحراء يصبح فنجان القهوة على الحطب .. من ذهب. يقول يوسف صديقي ورفيقي بهذه الرحلة المميزة للأردن مستذكرا ما قاله الشاعر محمود درويش عن سحر البنّ: القهوة لمن أدمنها مثلي هي مفتاحُ النهار.. والقهوة لمن يعرفها مثلي هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق ..لأن حامل الطبق هو حامل الكلام...". وهذا صحيح أيضا لكن القهوة هي الصديق الودود في الليل أيضا وتغدو أكثر وفاءا وصدقا حينما تدللها على نار هادية، نار الحطب كما شهدنا في واحة القبطان(الكابتن) في صحراء وادي رمّ. محمود وقع بحبها لأكثر من سبب فهي " هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني والوحيد الذي تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة ..". لكن السهر والسمر بدونها كالطعام بلا ملح. وكم يصدق وصف محمود لفنجانه وهو يتغزل به وبإعداده من ماء يسكب " على مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسري اللمعان أفر مائل إلى البني ثم تضعه على نار خفيفة.. آه لو كانت نار الحطب ...". مذاق القهوة في الصباح والعصر والمساء.. برد الروح.

القهوة أربعة فناجين


لكن الشيخ العجرمي الكفيف هو زينة الواحة إذ يثبت بألحانه أن زاد الروح أهم من زوادة البطن... الواحة تراقصت على أنغام معزوفات عود رنان رافقه بصوت كله حنية. العجرمي شيخ كفيف يغني للكثيرين لكن فيروز أقربهم لفؤاده ويتحدث عن الرحابنة بخشوع. يتمتع الزائرون لصحراء وادي رم بسماء صافية تشع منها النجوم فترى بوضوح أوضح من أي مكان آخر في العالم وسط عتمة الصحراء.. لا يبددها سوى لهيب نار شعبان القهوجي وهو مصري يمكث بجوار موقدة يعد فيها الشاي والقهوة ومشروب الهيل. يسقيك البن على طريقته ويستذكر أن فناجين القهوة وفق تقاليد الصحراء والبداوة أربعة : فنجان للهيف،فنجان للضيف،فنجان للكيف وفنجان للسيف. أما الأول فيحتسيه من يقدم القهوة بنفسه كي يتأكد من درجة حرارة البن ويطمئن الزائر بأن المشروب خال من أي شائبة(أو سم). أما الثاني فهو من نصيب الضيف وعندما يطلب المزيد يكون ذلك فنجان الكيف. لكن الفنجان الأخير خطير.. وهو لمن يختار من أفراد القبيلة أن يتولى عملية قتل أحد أعدائها بعد اجتماعها وقرارها بقتله( إن شاء الله تبقى القهوة المرّة ثلاث فناجين فقط!) الراحل محمود عشقها لأنها مفتاح النهار وفي " القبطان " تغلق فيها السهرة والخلود للنوم فيها أو مواصلة المسير للعقبة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]