لا يمكن لمن يمر من مفترق السرايا في مدينة غزة أن تفوته رؤية اليافطات الكبيرة التي باتت تحيط الميدان الكبير الذي نجم عن تدمير مقر السرايا التاريخي في المدينة. وربما باتت اليافطات التي تعلق هناك تتصارع وتسابق في الكشف عن عمق الانقسام وتجذره، لكنها وبطريقة أكثر بداهة تكشف عن المستوى المتدني للثقافة السياسية ولنسيج العلاقات الوطنية الداخلية والتعامل في نطاق الاختصام والاختلاف. فبعض تلك اليافطات مثل تلك الموجودة هذه الأيام يشكل إساءات كبيرة للوعي الوطني وتشكل بلغتها المنخفضة وبشاعة مدلولاتها، إساءة ليس مثلا لشخص الرئيس فقط بل للقيم الوطنية وللمثل التي نريد لأبنائنا أن يتربوا عليها سياسياً. لا يكفي أن مثل هذه اليافطات مرفوضة بل يجب مساءلة من يقوم بذلك لأنه بهذا يفرض على الناس مستوى خطاب متدنيا يقود بدوره إلى تسفيه وعيهم السياسي والحط من قدرتهم على التسامح والتعاون، وبذلك فهو يعمل على تمزيق النسيج السليم وتدنيس القيم الطاهرة، وقتل التربية السياسية السليمة. هناك من يهدر وقت الناس.

هل يمكن أن تدار العلاقات الوطنية بمثل هذا المستوى من الثقافة المضللة والسوداء! المؤكد أن وجود مثل هذه اليافطات يقول بوضوح إن لا مكان للعلاقات الوطنية في ثقافة ممارسها، وإن المصالحة ليست إلا عبارات كبيرة لا تمثل أكثر من وعود الشيطان لاتباعه بالنعيم والملك الذي لا يفنى. والمؤكد أن ثمة لغات كثيرة يمكن من خلالها التعبير عن الغضب والقلق والاختلاف السياسي. في مشهد آخر هل تتذكرون المسيرات ضد ياسر عرفات والشتم والردح له من قبل الحلفاء الجدد الآن، الذين باتوا يتباكون عليه وعلى زمنه. هل تذكرون خطبهم السوداء ضده ومحاولتهم إسقاطه! رحم الله أبا عمار.

حفل اليافطات شهد الكثير من الأزمات قبل ذلك وكان يصار دائماً إلى التغلب عليها. لابد أننا نتذكر كيف تم تعليق ملصق مسيء خلال إضراب الأسرى الأخير في نفس المكان، وفيما كان الأسرى يخوضون إضرابهم البطولي عن الطعام وتتضامن معهم جموع أبناء شعبنا في الوطن والشتات، وفيما كانت الخيمة الكبيرة في وسط ساحة السرايا تعج بمئات المتضامنين وبصور القادة الأبطال الشهداء والأسرى المضربين عن الطعام، كان هناك من يشغل نفسه بتركيب ملصق مسيء لـ"فتح" وللرئيس أبو مازن ضارباً بعرض الحائط الأجواء الطيبة والودية التي تسود بين أبناء التنظيمات في وقوفهم المشترك دفاعاً عن الأسرى، ومديراً ظهره للمطلوب وطنياً لدعم الأسرى المضربين عن الطعام. كان هناك من يفكر بمكاسبه الحزبية ودعايته الضيقة وإن كانت تقود إلى رسائل غير وطنية، على حساب المصلحة الوطنية. الأمر ليس بتسجيل النقاط، ولا في استغلال المواقف، ولا في التعبير الفج عن المواقف السياسية، لأن تغليب التناقض الثانوي على التناقض المركزي هو حرف للبوصلة. والمحزن أن يتحول الصراع الداخلي إلى تناقض مركزي فيما التناقض مع الاحتلال يظل في آخر قائمة تناقضاتنا. المؤلم أن المصلحة الوطنية التي باتت متغيرة ومتحولة ومتقلبة (فقط استمعوا إلى جلسة تشريعي غزة قبل يومين لتدركوا ذلك) أيضاً باتت ضحية المواقف والأهواء. القصة ليست فيما نقدر عليه من شر، بل فيما بوسعنا من خير. والقصة في الوطن وليست في الحزب أو التنظيم.

هل تتذكرون كيف كانت يافطات السرايا تتزين بزعماء ورؤساء وقادة. وفيما الحقيقة أن الوحيدين الذين يستحقون أن تتزين بهم جدران فلسطين ويافطاتها هم الشهداء العظام أو الأسرى الأبطال، فإن مهرجانات اليافطات في السرايا كانت تشكر كل الناس من كل بقاع الأرض. والمشكورون يتغيرون بالطبع وفق التحالفات السياسية وقد يسقط بعضهم من قائمة الشكر ويصعد من كان سابقاً خصماً وعلى قائمة المذمومين. تذكروا، المصالح تتغير وما يجري هو ركض خلف المصالح.

كانت النكتة في الشارع في غزة أن لا أحد يقول شكراً غزة أو شكراً شعب فلسطين. فنحن نشكر سورية وبشارها (لم يعودا في قائمة المشكورين) ونشكر قطر وأول الغيث قطر وتميم (هكذا كان يقال) ونشكر أردوغان (ونلعن الانقلاب الفاشل ضده) ونشكر مرسي (الآن يجب أن لا نأتي على ذكره) ونلعن الانقلاب ضده ونُصّر أنه الشرعية (الآن هذا من الماضي)، ونشكر الإمارات على تزويجها أبناءنا وبناتنا وعلى كوبوناتها وإفطاراتها الجماعية في رمضان (فنحن شعب يحب الاستجداء، ولا يستر حاجته). كل هؤلاء نشكرهم ونلعن بعضنا بعضاً. يافطاتنا موضوعة لشكر الناس ولذم أنفسنا. حتى أننا لا نشكر أنفسنا ولا نشكر الناس البسطاء الذين استطاعوا أن يثبتوا أنهم الأبطال الحقيقيون في كل معارك الصمود والتحدي، وأنهم ليسوا مجرد حطب للمعارك بل هم لهيب المعارك الذي إن خمد ماتت الروح الباقية والقادرة على الاستمرار.

ثمة عطب في ثقافتنا السياسية وفي مدركاتنا الوطنية أو في الطريقة التي نفهم فيها ما يجري حولنا. وهو عطب ربما كان مقصوداً وليس عرضياً ولا جينياً. انظروا مثلاً كيف تم عقد جلسة تشريعي غزة والكلمات المرتجفة والخجولة التي قيلت هناك وعبر تقنيات الفيديو كونفرس فيما القدس تشتعل وفيما كان يجب وضع الجهود لتعزيز صمود شعبنا هناك، كان هناك من يفكر في سبل الاقتصاص من الخصوم السياسيين وانتهاز اللحظة للردح والسب. ألم يكن أحرى بمن فعل ذلك أن يقول إنهم أودوا بالشعب إلى تهلكة الاقتتال والاختصام والاحتراب والدم والسحل في الشوارع والقتل في المستشفيات بسبب جشع شخصي وخصومة شخصية. هل كان الشهداء والجرحى هم المخطئون إذاً! هل سيقبل الشهداء أن يعودا ليروا كل ذلك؟ هل يمكن ترويضهم لو عادوا لنقنعهم بواقعنا الجديد؟ حتى شهداء الطاهر وطار في "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" لم يكونوا ليقبلوا بذلك.

عموماً، الكوميديا هي جوهر المأساة، ألم يقل أجدادنا إن شر البلية ما يضحك! وواقعنا وشطحاتنا وأهواؤنا السياسية كلها مصدر تعاستنا وإن كان هناك من يتسلى بها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]