1. نشهد منذ ما يقارب الأسبوعين، اضراباً عن الطعام ينفذه الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. هدف الاضراب هو تحسين شروط الاعتقال، خصوصاً من الناحية الإنسانية، مثل تمكين ذويهم من زيارتهم، وتسهيل هذه الزيارات، إتاحة الفرصة لمقابلة المحامين، توفير الكتب لهم وإمكانية التعلم، وتحسين الظروف الصحية...

في هذه الأسطر سأتطرق فقط للقضايا الصحية لأنها الأخطر والأصعب، والتي يعاني منها الأسير كما السجين، وسأحاول أن أختصر قدر الإمكان لأن الموضوع شائكٌ ومعقدٌ.

2. هل الصحة هي حق للإنسان؟ ومَن عليه أن يؤدي هذا الحق؟

أ: إن حقوق الإنسان، كما ذكرنا ونذكر دائماً هي الحقوق التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان لمجرد كونه إنساناً، والتي تُؤّمن له العيش بكرامة مثل: الحق في الحياة، في الحرية، في الأمان، في المساواة، في التعليم، في العمل، في السكن، في تكوين عائلة ....
معظم هذه الحقوق وُجدت منذ وُجد الإنسان والبشرية، كالحق في الحياة والحرية...، وكانت تُسمّى "الحقوق الطبيعية"، ومن خلال تطور البشرية وحضاراتها ودياناتها، تطورت هذه الحقوق واتّسعت. لكن المساواة لم تكن دائماً جزءاً من هذه الحقوق.
دُعيّتْ هذه الحقوق "حقوق الإنسان" في نهاية القرن الثامن عشر، خاصة بعد الثورة الفرنسية، وتُعتَبر الجيل الأول لحقوق الإنسان.
وبقيت هذه الحقوق تتطور وتتسع الى يومنا هذا، فأُضيفت للحقوق السياسية حقوقٌ اجتماعية واقتصادية، تسمى "حقوق الجيل الثاني"، مثل التعليم، العمل، السكن، الصحة...

ب: أما من الناحية القانونية، فإن كل هذه الحقوق (الجيل الأول والثاني)، هي من مسؤولية الدول التي تلتزم باحترامها وحمايتها وتنفيذها، أي أنها تلتزم بإنشاء المؤسسات التي تُؤمن هذه الحقوق (مدارس، مستشفيات، أماكن عمل، أماكن سكن...). لقد وقعّت معظم الدول، وليس كلها، على المعاهدات الدولية التي تُلزم كل دولة بحماية هذه الحقوق لمواطنيها، فإلى جانب "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (1948)، هناك اتفاقيات إضافية توقّع عليها الدول لتُثبت احترامها لحقوق الإنسان.

ج: الصحة هي، كما ذكرنا أحد الحقوق الأساسية التي تَسمح للإنسان بالعيش بكرامة. هذا الحق يُلزِم الدولة بأن تؤمن لمواطنيها أو للإنسان الذي يعيش على أرضها، الحصولَ على ظروف وشروط صحية، بأكبر قدر يمكن للدولة أن تقدمه.

ومن هذه الشروط:
- الوقاية من الأمراض الجرثومية المعدية.
- ظروف بيئية سليمة: هواء نظيف وغير ملوث، مياه شرب نظيفة وصحية، شوارع وطرقات آمنة، أماكن صناعية بعيدة عن أماكن السكن، الحِرص على الهدوء ومنع الضجيج...
- عيادات ومستشفيات، طواقم طبية متنوعة، مراكز أبحاث تَدرُس امراض السكان وتحاول إيجاد علاجات لها.
- طواقم توعية صحية تصل الى كل شرائح السكان.

لماذا هذا الموضوع أصبح من مسؤوليات الدولة وليس الفرد وحده؟

إن الثورات الصناعية والتكنولوجية والعلمية في الأزمنة الأخيرة، غيّرت وجه الأرض ايجاباً وسلباً. فكما أن هذا التطور الحياتي يُعرّض الإنسان الى أمراض جديدة، كذلك فإن العلوم باختلافها فتحت آفاق علاج جديد ومتطورة، ولكنها باهظة الأثمان. لهذا فلم يعد بمقدور الإنسان العادي، وحتى الثري، أن يحصل بسهولة على علاجات غالية الثمن، كبعض الأدوية والعمليات الجراحية، والعلاجات الإشعاعية...
كل هذه الأمور أدّت الى وضع أصبحت فيه صحة الإنسان متعلقة بالدولة وبسياساتها وبتوزيع ميزانياتها...
فإن كانت حياة وصحة الإنسان العادي والحر، هي، والى حد كبير، تحت سيطرة الدولة، فماذا نقول عن صحة إنسان أسير او سجين، جسده كله بيد الدولة؟

3. إن اتفاقية جنيف الرابعة، تنُص على أنه من واجب أي دولة، مُشارِكةٍ في نزاع مسلّح، أن تهتم بصحة الأسرى الذين في معتقلاتها وسجونها، بحيث تؤمن لهم بيئة سليمة تمنع عنهم الأمراض، وغذاءً صحياً يَقيهم من التدهور الصحي ويُوفر لهم العناصر الضرورية للحياة، وفحوصات وعلاجات لازمة للحفاظ على صحتهم، كما تمنع تعذيب الاسرى.

إن إسرائيل لم توقع على هذه الاتفاقية، ولكنها وقعَت على بعض ملحقاتها، لكنها رفضت تعريف الأسرى الفلسطينيين بأنهم أسرى حرب، وأسْمتهُم "سجناء أمنيون" أو "إرهابيون". وهذا يعني تعريفاً آخر مختلفاً للأسير وللقضية الفلسطينية بأكملها. وبذلك تمنع عنهم كل الحقوق الصحية وغيرها التي تضْمنها لهم الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.

4. إن المؤسسة العربية لحقوق الإنسان، بالاشتراك مع مؤسسة الضمير، قامت قبل ثلاث سنوات، بإجراء دراسة شاملة حول الأوضاع الصحية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وكانت النتائج رهيبة في عدة مجالات:

- عدم تأمين ظروف صحية تحفظ صحة الأسير، بل تؤدي الى تدهورٍ في صحته الجسدية والنفسية.
- عدم تأمين علاج مناسب في الوقت المناسب والمماطلة بإجراء الفحوصات والعمليات الجراحية وتوفير الأدوية مما يؤدي في النهاية الى الموت.
- في اللحظة التي يُعتقل فيها إنسانٌ، يتحول ملفّه الطبي من إشراف وزارة الصحة الى إشرافٍ وسيطرةٍ كاملة لسلطة السجون التي تتصرف به وبصحة الأسير المريض، كما يروق لها. ومن ثم فالطواقم الطبية لا تعمل تحت إشراف وقوانين وزارة الصحة بل تحت اشراف سلطة السجون.
إن هذه الدراسة، طويلة ومتفرعة، وأتمنى لو تمكّن كل إنسان من قراءتها.

5. سأذكر خبرة شخصية: أثناء دراسة القانون في جامعة حيفا، قمنا كطلاب مع مدرسين بزيارة لسجن الدامون القريب من الجامعة، وذلك من خلال دراسة موضوع "القانون الجنائي" (القانون الجنائي هو ما ينطبق على الجرائم وعلى السجين الذي قام بها، بينما الأسير هو ليس بسجين جنائي):

كان الزمن شهر نيسان، فقبل دخولنا السجن، نظرت حولي الى جبل الكرمل الجميل، الى تلاله الخضراء المزينة بزهور من كل الألوان، واستنشقت الهواء العليل في تلك القمة...... ثم دخلنا الى السجن والى الزنزانات حيث يُسجن، وفي غرف صغيرة، عشرة اشخاص، ينامون على أسرّةٍ خشبية وضيقة ومُركبةٍ بعضها فوق بعض. أما الطعام، فيطبخه السجناء في احدى زوايا هذه الزنزانة حيث يعملون أيضاً حاجاتهم الطبيعية. كل ذلك بين جدرانٍ من دون أي شباك أو مصدر للهواء النقي ولا حتى لنور الشمس!!! بينما في الخارج أنقى هواء وأجمل طبيعة!!!

فهل خُلقت هذه الطبيعة ليُحرمَ الإنسان منها حتى لو كان مجرماً؟ نظرت الى وجوه السجناء، فكانت شاحبة اللون، بلون بشرة لا تتنفس إلا الهواء الملوث، وعيونهم غائرة تكشف امراضاً من كل نوع...خَرجّتُ وخَرجّنا من الزنزانة، فأقفل الحارس بابها من الخارج وكأنه يُقفل باب خزانة... ومن يومها لم أزُرْ سجناً، وكلي ثقة أن عقاب المجرم يجب أن يشفيه ويطوره وليس أن يقتله.

فإن كان هذا حالُ السجين، فماذا نقولُ عن حال الأسير الفلسطيني الذي يُؤمن بصِدْق وعدالة قضيته، ويَقضي من أجلها سنوات حياته في الأسر؟
هل من دولة أو منظمة دولية يهمُها أمرُهُ؟ لماذا لم يبقَ أمام الأسرى سوى الإضراب المفتوح عن الطعام؟


ابتسام حنا المعلم-رئيسة الهيئة الإدارية
المؤسسة العربية لحقوق الإنسان
الناصرة 27.4.2017

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]