هآرتس 2016/12/4 ترجمة: أمين خير الدين
أوسترابا، تشيكيا
اجتزنا قهوة إلكترا، وفندق إمبريال، ومتحف الفنون البلدي، القائمين هناك منذ سنين. طبقة من الثلج الخفيف، مطر لا يتوقّف وبرد قارس. مترو كهربائي يتحرك، في جوفه رائحة كريهة، ننتقل به إلى بيت أمّي. ننزل من االترام الكهربائي ونمشي في الشوارع المكفهرّة التي سار عليها آبائي يوميّا، ينتابني إحساس غريب وثقيل، ممزوج بالحزن والحنين إلى مكان لم أكن به من قبل أبدا، ولم يمرّ يوم من طفولتي ولم يذكروا اسمه أمامي مريش – اوستراو (بالألمانيّة) مورفاسكا أوسترافا ( باللغة التشيكيّة)، فجأة لاح البيت، بكل فخامته، بكل شموخه، بتدفق المشاعر التي أيقضها بأعماقي، عمارة ركنيّة كبيرة القياسات، ثلاثة طوابق بواجهة مُزخرفة، ملوّنة بلون البيج المائل للبياض، أجمل بيوت المدينة.
منذ سنوات وهو يُسْتعمل لقيادة الشرطة، اضطرّ جدّي لبيعه للغستابو رخيصا، الآن يرمموه بفن، يعمل به عامل تشيكي مُرْتبك، سمح لنا بالدخول. لم يُصدّق أن البيت كان بيتنا، منذ زمن وهو مقرا لقيادة الشرطة، على المصطبة عند المدخل بلاط جديد وجميل، سلم ملتفٌّ، درابزين خشبي مرمّم. الدرابزين الذي كان يتكئ عليه جدي وجدتي عندما يصعدون، وربما تزحلقت عليه أمّي وعمّي في طفولتهم عند نزولهم. أما ما كانو يشاهدونه من الشباك الذي كان شُبّاكهم – الدكان القريب، البيت المقابل. الخادمة آنا التي كانت تسكن فوق السطح. ربما في الغرفة التي تحتها كانت أمّي تُحضِّر وظائفها البيتيّة؟ وما كانت تحلم به في لياليها؟
لا أعرف الكثير عن هذا البيت، وعمّا يدور بداخله، لم يتكلّموا عنه كثيرا، وأنا لم أهتمّ به كثيرا، للأسف الشديد، لم يبق مّنْ أسأله عنه. الآن يغطّي المصطبة القديمة خشب جديد، وأثاث مكتبي يملأ الغرف المرمّمة بإتقان، بعد قليل سيعود إلى هنا رجال الشرطة. لن يعرف أيٌّ منهم ما كان هنا. وُلِدتْ أمّي هنا، جدتي وجدي تعارفا هنا، عمتي وعمّي سكنا هنا. كان البيت ملْكا للعائلة.
في ساحة مسريك الساحة المركزيّة من المدينة يُقام معرض عيد الميلاد، عيد النبيذ الساخن المُتدفِّق كالماء، أُغْلِقت مُعظم مناجم الفحم التي كانت على التلال المحيطة منذ زمن. ضفتا نهر الأُسْتربيسا الذي يقسم المدينةمنحدروة ومُغطّاة بالثلج.هل كانت القُبْلَة الأولى لأمّي هلى ضفّة هذا النهر؟ أو الحب الأول لجدّتي؟ الأسئلة تتردد ولا تدعني أستريح: ملدا كا سيحد لو لم. لو لم يصل النازيون إلى هنا، ولم تُرْسَل أمّي في إطار هجرة الشباب للبلاد التي لم تكن معروفة عندما كانت أمي فل ال- 16 من عمرها. هل كانوا سيغادرون هذا المكان، لو لم يضطرّوا لذلك؟ ماذا كان سيحدث مع أمّي ومعي، لو لم؟
عن مطعم سفيتشكوفا المحلّي – نفس السفيتشكوفا التي كانت تعِدّها جدتي وأُمّي، نفس العجينة المتبخِّرة، نفس لحم الخنزير، نفس الملفوف الأبيض والأحمر ونفس رُطب القشدة ذات الطعم الطيّب – أفكر بمعنى الإحساس العاطفي في قلبي لهذا المكان. قبل ثلاث سنوات زرتُ مدينة أبي في مُقاطعة سوديتم، الآن أزور مدينة أمّي، اثناهما يثيران لديّ إحساسا أكبر مما يُثيره الحرم الإبراهيمي أو تلال السامرة.
بماذا يشعر الفلسطيني ابن الذين تركوا الشيخ مؤنس إذا زار رامات أبيب؟ يمكن التكهّن أن الأحاسيس متشابهة. بلا شك هو سمع، وبدون توقُّف عن المكان الذي اضطرّوا إلى مغادرته.وبلا شك أيضا احتفظوا بشيء من البيت الضائع للذكرى. وعندهم "ليندسمان شافط" رابطة مهجري كستينا، كرابطة مُهجّري فيلينا. لكنه هو وعدوه بالعودة يوما ما. عندنا لم يرغبوا بالعودة أبدا. لماذا؟ لأنه لدينا دولة وحياة جديدة وحريّة واحترام -- ,هم ليس لديهم.، ومن تثير عنده عودة الفلسطينيين خوفا مُرْعبا، عليه ان يتذكر ذلك.
في اليوم التالي، في ساعة من الليل ، وفي ساحة واصلب في بلغراد، سمعت نداء عاليا انطلق نحوي من الخلف، وباللغة العبريّة: "إبق َ هنا يا كلب".
2016/12/7 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]