ضمن عملي كمحامية في الدائرة القانونيّة لجمعيّة "كيان"، والضلوع في العديد من الاستشارات القانونيّة في قضايا الأحوال الشخصيّة، تبنّيت أهمية طرح قضية زواج المرأة بعد الطلاق وأثرها على حضانة الأم للأطفال (القانون يُعرّف الطفل بأنّه كلّ شخص دون سنّ الثامنة عشرة). وكُنّا، في كيان، قد نشرنا نهاية عام 2014 ورقة موقف تتطرّق إلى الموضوع، ومع النشر، تلقّينا توجهاتٍ عديدة من نساء فقدنَ حضانتهنّ بعد الزواج الثاني، وتوجّهات أخرى لنساء أُرغِمنَ على توقيع اتفاقيّات طلاق اشترطت حضانتهنّ للأطفال بعدم زواجهنّ مرّة أخرى.

ويُظهر هذا الأمر، مُجدّدًا، الإجحاف الذي تعانيه المرأة عندما تقرِّر الاستمرار في حياتها بعد الطّلاق، بخلاف ما يحدث مع الرجل. وينبع هذا الإجحاف من القوانين المطبَّقة في المحاكم الدينيّة، والتي تشترط حضانة الأم لأطفالها بعد الطلاق بعدم زواجها ثانية. فعلى سبيل المثال، تعتمد المحكمة الكنَسيّة الأرثوذكسيّة على المادّة 272 من قانون العائلة البيزنطيّ، والذي يقضي بخسارة الأم لإعالة الأولاد من الزواج الأوّل وحق الوصاية عليهم في حال زواجها الثاني. ويتمحور هذا المقال في تطبيق "فرضيّة زواج الأم من رجل غريب" في المحاكم الشرعيّة.

وفقا للمنظومة القانونيّة السائدة، فإنّ المحاكم الدينيّة هي صاحبة الصلاحيّة الوحيدة والحصريّة في قضايا الزواج والطلاق. ومنذ عام 2001 اكتسبت المحاكم المدنيّة (محاكم شؤون العائلة) صلاحية التداول في باقي قضايا الأحوال الشخصيّة، كالحضانة على سبيل المثال، وأتيح الخيار أمام النساء الفلسطينيّات في إسرائيل بتقديم الدعاوى في المحكمة الدينيّة أو المدنيّة.

وفي سياق المتقاضين من الديانة الإسلامية، يجري تداول قضية الحضانة وفقا لمبدأ "سباق الصلاحيّات"، أي أنّ المحكمة (المحكمة الشرعيّة أو محكمة شؤون العائلة) التي تقدّم لها دعوى الحضانة أولاً، هي التي تكتسب الصلاحية للبتّ في الملف. يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا التعديل وسّع من إمكانية الاختيار أمام المتقاضين، إلاّ أنّ مبدأ سباق الصلاحيّات يشكل عائقا أمام النساء، خصوصًا في المجتمع الفلسطينيّ، لأنّهن المجموعة الأكثر فقرًا وبطالة، ما يُصعّب عليهنّ تقديم الدعوى أولاً، وما يجعلهنّ الخاسرات في هذا السباق، عادةً.

تستند قضايا الحضانة في المحاكم الشرعيّة والمدنيّة إلى مبدأ مصلحة الطفل، وهو الاعتبار الأهمّ في حسمها. وتنبع الإشكاليات التي تواجهها النساء في المحاكم الشرعيّة بخصوص قضايا حضانة الأطفال بعد الزواج الثاني من الاختلاف في التفسيرات الممكنة لمبدأ مصلحة الطفل. ففرضية "زواج الأم من رجل غريب" تقول إنّ الرجل الغريب (غير المحرَّم على الأطفال) لن يُحسن معاملة الطفل، ما يؤدّي إلى نزع الحضانة من الأم لصالح الأب أو غيره بحجّة مصلحة الطفل، بينما لا يُطرح هذا الاعتبار بتاتًا في حال الزواج الثاني للرجل بعد الطلاق، ما يُجسّد التمييز البنيويّ ضدّ المرأة في قضايا الحضانة في المحاكم الشرعيّة.
ورُغم وجود قرارات صادرة عن المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم المحاكم الشرعيّة بالتداول في قضايا الحضانة وفقا لمبدأ مصلحة الطفل (وفق قانون الأهليّة القانونيّة والوصاية)، إلى جانب أحكام قانون مساواة حقوق المرأة بالرجل، إلاّ أنّ المحاكم الشرعية ما زالت تطبّق "فرضيّة زواج الأم من رجل غريب". ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ: فحين يُقدّم الأب دعوى لنزع حضانة الطفل من أمّه بعد زواجها الثاني، يقع عبء إثبات مصلحة الطفل على الأم، إذ يتوجّب عليها إثبات أفضليّتها مقابل الأب في حضانة الطفل، ما يشكّل عائقًا إضافيًّا أمام الأم لحفظ حقها في الحضانة.
يجب على المحكمة أن تفحص مصلحة الطفل بناءً على عدّة بيِّنات، منها تقرير الشؤون الاجتماعيّة وفحص رغبة الطفل ومعايير أخرى، إلاّ أنّ ذلك لا يحصل دائمًا. ففي حالة رشا (اسم مستعار) تجسّدت المُعيقات التي تواجهها المرأة في المحكمة الشرعية: بعد طلاق رشا، أقرّت المحكمة الشرعيّة الحضانة للأم، وحدّدت ترتيبات اللقاء مع الأب بعد تبنّي توصيات تقرير الشؤون الاجتماعيّة، الذي أوصى بحفظ الحضانة للأم. وبعد مرور 4 سنوات على الطلاق، تزوّجت رشا برجل آخر، وتلقّت مباشرة دعوى قدّمها طليقها في المحكمة الشرعيّة لنزع حضانتها. وقد استمرّ التداول في المحاكم في مسألة الحضانة مدة 6 سنوات. بعد تقديم الدعوى قرّرت المحكمة الشرعية أنّ رشا ملزمة بإثبات ادّعائها بأنّ مصلحة الطفلتيْن تكمن في بقائهما بحضانتها، وذلك وفقًا لفرضيّة الزواج برجل غريب. قامت رشا بواسطة "كيان" بتقديم استئناف أمام محكمة الاستئناف الشرعيّة، مُدّعية عدم قانونيّة قرار المحكمة بتكليف الأم عبء البيِّنة. فتطبيق فرضيّة الزواج برجل غريب مناقض لمبدأ مصلحة الطفل، وتحميل الأم واجب الإثبات ينتهك مبدأ المساواة وحقّ المرأة بمحاكمة عادلة ونزيهة. في النهاية رفضت محكمة الاستئناف الشرعيّة الاستئنافَ المقدّم قائلة إنّ تقديم الاستئناف سابق لأوانه، وإنّه لا يمكن الاستئناف على قرار التكليف بالبيّنة، لأنّه قرار أوليّ وليس نهائيًّا، وفرضت على "كيان" دفع مصاريف المحامي وأتعابه.
بعد استمرار التداول في المحكمة الشرعيّة في مسألة الحضانة، صدرت توصيات الشؤون الاجتماعية، والتي أوصت بدورها بتثبيت حضانتها، إلّا أنّ المحكمة الشرعيّة قضت بأنّ رشا لم تثبت أنّ مصلحة الطفلتين تكمن لديها، وبأنّ رغبتهما لا تنبع من أسباب موضوعيّة، وأنّ الأم قامت بتحريضهما؛ وبذلك جعلت الحضانة مشتركة بين الأم والأب. قدمت "كيان" استئنافًا على قرار المحكمة الشرعيّة باسم الأم، وقبلت محكمة الاستئناف الطلب، مُشيرةً إلى أنّ واجب الإثبات يقع على الأم، وأنّ توصيات تقرير مأمور الشؤون قد بيّنت أنّ الأم أهلٌ لحضانة الطفلتيْن رُغم زواجها برجل آخر، وهذا سبب كافٍ للحكم ببقاء الحضانة مع الأم.
يشكّل هذا الملف نموذجًا للتمييز الممارَس ضدّ النساء في المحاكم الشرعيّة؛ ففي أثناء التداول في المحكمة تزوّج الأب مقدّم الدعوى، وأظهرت تقارير الشؤون الاجتماعيّة التي امتدّت على فترات زمنيّة متباعدة، أنّ علاقة الطفلتيْن بالأب كانت مشحونة إثر شعورهما بالغربة مع زوجته، إلّا أنّ المحكمة لم تأخذ ذلك بالحسبان. ويعكس الملف، أيضًا، الإشكالية القائمة في فرضيّة الزواج برجل غريب التي تقضي بسقوط حق الأم بالحضانة، وتحميلها عبء الإثبات عند زواجها برجل غريب، الأمر الذي يتناقض مع مبدأ مصلحة الطفل وحقّ الطرفيْن المتقاضييْن بالمساواة، وفقًا لقرارات المحكمة العُليا التي تلزم المحاكم الشرعيّة بالعمل بما يتماشى مع قانون الأهليّة وقانون مساواة المرأة بالحقوق- 1951.
تشكّل فرضيّة الزواج من رجل غريب عائقًا أمام ممارسة المرأة لحقّها بالزواج، خوفًا من حرمانها حضانة أطفالها، ما يؤدّي إلى عجزها عن تطوير نفسها اجتماعيًا وعاطفيًا، وامتناعها عن بناء حياة زوجيّة جديدة في كثير من الأحيان، وفي حال قرّرت الزواج فإنّها تعيش في حالة تهديد مستمرّ بخسارة أطفالها.
رغم الوضع القائم، الا أنّ الوعي للتمييز لدى النساء يشكل حجر الأساس لتغيير الواقع من خلال رفع الوعي المجتمعي للقضية ووضع مصلحة الطفل في المرتبة الأولى ودون التمييز ضد النساء في المسارات القضائية.ومن هنا، نشجّع النساء على التوجّه لتلقي استشارة قانونيّة في حال تعرضهنّ للابتزاز والتهديد بنزع حضانة أطفالهنّ، ونطالب المحاكم الدينيّة بتطبيق معايير موضوعيّة ومتكافئة، لضمان مصلحة الطفل وحقّ المرأة بالعدل والمساواة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]